الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
5 - اختلف الفقهاء في من يصح منه الالتقاط ولهم في ذلك اتّجاهان: الاتّجاه الأوّل: ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في الرّاجح عندهم والحنابلة إلى أنّه يجوز الالتقاط من أيّ إنسانٍ سواء كان مكلّفاً أم غير مكلّفٍ, رشيداً أم لا. وعلى ذلك يصح الالتقاط من الصّبيّ والمجنون والمعتوه والسّفيه ومن المسلم والذّمّيّ, واستثنى الحنفيّة المجنون فلا يصح التقاطه عندهم وكذلك المعتوه في قولٍ, وقد استدلوا على ذلك بما يلي: أ - عموم الأخبار الواردة في اللقطة, فلم تفرّق بين ملتقطٍ وآخر. ب - أنّ الالتقاط تكسب فصحّ من هؤُلاء كالاصطياد والاحتشاش. الاتّجاه الثّاني: ذهب مالك إلى أنّ الملتقط هو كل حرٍّ مسلمٍ, بالغٍ, وعلى ذلك لا يصح الالتقاط عنده من العبد ولا من الذّمّيّ ولا من الصّبيّ, ووافقه بعض أصحاب الشّافعيّ في عدم جواز الالتقاط من الذّمّيّ. واستدلوا على ذلك بما يأتي: أ - أنّ اللقطة ولاية ولا ولاية للعبد والذّمّيّ والصّغير. ب - أنّ اللقطة أمانة والذّمّي ليس أهلاً للأمانات. وإن تلفت اللقطة في يد من يجوز له الالتقاط من غير تفريطٍ منه لم يكن عليه ضمان, لأنّه أخذ ما له الحق في أخذه. أمّا إن كان التّلف بتفريطه فإنّه يضمنها من ماله هو. وإذا علم الولي بالتقاط من عليه الولاية وجب عليه أخذها منه, لأنّ المولّى عليه ليس من أهل الحفظ والأمانة, فإن تركها الولي في يده كان عليه ضمانها, لأنّه يلزمه حفظ ما يتعلّق به حق الصّبيّ, وهذا يتعلّق به حقه, فإذا تركها في يده كان مضيّعاً لها فوجب عليه ضمانها, وإذا أخذها الولي عرّفها هو, لأنّ واجدها ليس من أهل التّعريف, فإذا عرّفها خلال مدّة التّعريف دخلت في ملك واجدها وليس في ملك الوليّ لأنّ سبب الملك تمّ شرطه فيثبت الملك له.
6 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في المذهب والحنابلة إلى أنّه يسن الإشهاد على اللقطة حين يجدها, لأنّ في الإشهاد صيانةً لنفسه عن الطّمع فيها وكتمها وحفظها من ورثته إن مات, ومن غرمائه إن أفلس, ويشهد عليها سواء أكان الالتقاط للتّملك أم للحفظ. وذهب الحنفيّة وهو مقابل المذهب عند الشّافعيّة إلى وجوب الإشهاد لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من وجد لقطةً فليشهد ذا عدلٍ أو ذوي عدلٍ ولا يكتم ولا يغيّب», والحكم كذلك عند المالكيّة إذا تحقّق أو ظنّ ادّعاء ملكيّتها. ويكون الإشهاد بقوله على مسمعٍ من النّاس: إنّي ألتقط لقطةً, أو عندي لقطة, فأيّ النّاس أنشدها فدلوه عليّ, فإذا أشهد عليها ثمّ هلكت فالقول قول الملتقط ولا ضمان عليه. ويذكر في الإشهاد بعض صفات اللقطة ليكون في الإشهاد فائدة ولا يستوعب صفاتها لئلا ينتشر ذلك فيدّعيها من لا يستحقها ممّن يذكر صفاتها الّتي ذكرها الملتقط, ولكن يذكر للشهود ما يذكره في التّعريف من الجنس والنّوع, أو عفاصها أو وكاءها.
7 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المعتمد والحنابلة إلى أنّه يجب على الملتقط تعريف اللقطة سواء أراد تملكها أو حفظها لصاحبها لما ورد عن أبي بن كعبٍ قال: «أصبت صرّةً فيها مائة دينارٍ ، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: عرّفها حولاً ، فعرّفتها حولاً فلم أجد من يعرفها ، ثمّ أتيته فقال: عرّفها حولاً ، فعرّفتها فلم أجد ، ثمّ أتيته ثلاثاً فقال: احفظ وعاءها وعددها ووكاءها ، فإن جاء صاحبها ، وإلا فاستمتع بها». ولم يفرّق بين من أراد حفظها ومن أراد تملكها, ولأنّ حفظها لصاحبها إنّما يقيّد باتّصالها إليه وطريقة التّعريف, أمّا بقاؤُها في يد الملتقط من غير وصولها إلى صاحبها وهلاكها سيّان, ولأنّ إمساكها من غير تعريفٍ تضييع لها عن صاحبها فلم يجز, ولأنّه لو لم يجب التّعريف لما جاز الالتقاط, لأنّ بقاءها في مكانها إذاً أقرب إلى وصولها إلى صاحبها, إمّا بأن يطلبها في الموضع الّذي ضاعت فيه فيجدها, وإمّا بأن يجدها من يعرفها, وأخذها يفوّت الأمرين فيحرم, فلمّا جاز الالتقاط وجب التّعريف كي لا يحصل هذا الضّرر, ولأنّ التّعريف واجب على من أراد تملكه, فكذلك على من أراد حفظها. وذكر الشّافعيّة أنّه يشترط فيمن يتولّى التّعريف أن يكون عاقلاً ثقةً ولا تشترط فيه العدالة إذا كان موثوقاً بقوله, كما يشترط أن يكون غير مشهورٍ بالخلاعة والمجون وهو عدم المبالاة بما يصنع.
8 - يرى مالك والشّافعي وأحمد أنّ اللقطة تعرّف سنةً من غير تفصيلٍ بين القليل والكثير, وهذا رأي محمّد بن الحسن من الحنفيّة أيضاً, لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن خالدٍ الجهنيّ رضي الله عنه أن يعرّف اللقطة سنةً من غير فصلٍ بين القليل والكثير, ولأنّ السنّة لا تتأخّر عنها القوافل, ويمضي فيها الزّمان الّذي تقصد فيه البلاد من الحرّ والبرد والاعتدال فصلحت قدراً. ويرى أبو حنيفة وبقيّة أصحابه التّفريق بين القليل والكثير فإن كانت أقلّ من عشرة دراهم عرّفها أيّاماً على حسب ما يرى أنّها كافية للإعلام, وأنّ صاحبها لا يطلبها بعد هذه المدّة, وإن كانت عشرةً فصاعداً عرّفها حولاً, لأنّ التّقدير بالحول ورد في لقطةٍ كانت مائة دينارٍ تساوي ألف درهمٍ. لما ورد عن زيد بن خالدٍ الجهنيّ أنّه قال: جاء رجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم, فسأله عن اللقطة فقال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثمّ عرّفها سنةً ، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها ، قال: فضالّة الغنم ؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذّئب ، قال: فضالّة الإبل ؟ قال: ما لك ولها ، معها سقاؤُها وحذاؤُها ، ترد الماء وتأكل الشّجر حتّى يلقاها ربها».
9 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الملتقط يعرّف اللقطة خلال مدّة التّعريف, في النّهار دون اللّيل لأنّ النّهار مجمع النّاس وملتقاهم دون اللّيل, ويكون التّعريف في اليوم الّذي وجدها فيه ولأسبوع بعده, لأنّ الطّلب فيه أكثر فيعرّفها في كلّ يومٍ. ويعرّفها في المكان الّذي وجدها فيه, لأنّ ذلك أقرب إلى الوصول إلى صاحبها, لأنّه يطلبها غالباً حيث افتقدها, كما تعرّف أيضاً على أبواب المساجد والجوامع في الوقت الّذي يجتمعون فيه كأدبار الصّلوات, ولا ينشدها داخل المسجد, لأنّ المساجد لم تبن لهذا, ولورود النّهي عن ذلك, كما يعرّفها أيضاً في الأسواق والمجامع والمحافل ومحالّ الرّحال ومناخ الأسفار, وإن التقط في الصّحراء وهناك قافلة تبعها وعرّف فيها.
10 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجب على الملتقط أن يستغرق جميع الحول بالتّعريف كلّ يومٍ, بل يعرّف في أوّل السّنة كلّ يومٍ مرّتين, ثمّ مرّةً كلّ أسبوعٍ, ثمّ مرّةً أو مرّتين في كلّ شهرٍ, وإنّما جعل التّعريف في أوّل السّنة أكثر, لأنّ طلب المالك فيها أكثر, وكلّما طالت المدّة على فقد اللقطة قلّ طلب المالك لها. وذهب الشّافعيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة إلى أنّه إن أخذها ليحفظها لمالكها لا تلزمه مؤنة التّعريف إن كانت لها مؤنة بل يرتّبها القاضي من بيت المال أو يقترض على المالك, وإن أخذها للتّملك لزمه مؤنة التّعريف. وذهب المالكيّة إلى أنّ الملتقط لو استناب غيره لتعريفها فالأجر من اللقطة. وذهب الحنابلة إلى أنّ للملتقط أن يتولّى التّعريف بنفسه وله أن يستنيب فيه غيره, فإن وجد متبرّعاً بذلك, وإلا إن احتاج إلى أجرٍ فهو على الملتقط. قال الشّافعيّة وإن أراد سفراً استناب من يحفظ اللقطة ويعرّفها بإذن الحاكم ولا يسافر بها, أمّا إذا التقط اثنان لقطةً عرّفها كل واحدٍ منهما نصف سنةٍ, أو عرّفها أحدهما سنةً كاملةً نيابةً عن الآخر, ويعرّفها كلّها لا نصفها ليكون للتّعريف فائدة. وإن أراد التّخلص من تعب التّعريف دفعها إلى حاكمٍ أمينٍ, أو إلى القاضي, ويلزمهما القبول حفظاً لها على صاحبها.
11 - يجب أن يذكر من يتولّى التّعريف جنس اللقطة ونوعها ومكان وجودها وتاريخ التقاطها, ولا سيّما إذا تأخّر في التّعريف, كما له أن يذكر عفاصها أو وكاءها, لأنّ في ذكر الجنس أو النّوع أو العفاص أو الوكاء ما يؤدّي إلى انتشار ذلك بين النّاس فيؤدّي إلى الظّفر بالمالك, ويجب على المعرّف أن لا يستوفي جميع أوصاف اللقطة حتّى لا يعتمدها كاذب فيفوّتها على مالكها. 12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ الملتقط إذا أشهد على اللقطة فيده عليها أثناء الحول يد أمانةٍ, إن جاء صاحبها أخذها بزيادتها المتّصلة والمنفصلة, لأنّها نماء ملكه, وإن تلفت عند الملتقط أثناء الحول بغير تفريطه أو نقصت فلا ضمان عليه كالوديعة, وإن أقرّ الملتقط أنّه أخذها لنفسه يضمن لأنّه أخذ مال غيره بدون إذنه وبدون إذن الشّرع. ويرى أبو حنيفة ومحمّد أنّه إذا أخذ اللقطة ولم يشهد عليها وقال أخذتها للحفظ وكذّبه المالك يضمن, وعند البقيّة من الفقهاء لا يضمن, والقول قول الملتقط مع يمينه, وإنّما قيل بعدم الضّمان لأنّ الظّاهر شاهد له لاختياره الحسبة دون المعصية, لأنّ فعل المسلم محمول على ما يحل له شرعاً, والّذي يحل له هو الأخذ للرّدّ لا لنفسه, فيحمل مطلق فعله عليه, وهذا الدّليل الشّرعي قائم مقام الإشهاد منه, وأمّا أنّ القول قوله فلأنّ صاحبها يدّعي عليه سبب الضّمان ووجوب القيمة في ذمّته, وهو منكر لذلك, والقول قول المنكر مع يمينه, كما لو ادّعى عليه الغصب. ووجه قول أبي حنيفة ومحمّدٍ أنّ الملتقط أقرّ بسبب الضّمان وهو أخذ مال الغير, وادّعى ما يبرّئه وهو الأخذ للمالك, وفيه وقع الشّك فلا يبرأ. وإن أتلفها الملتقط أو تلفت عنده بتفريطه ضمنها بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال وبقيمتها إن لم يكن لها مثل, وإن تلفت بعد الحول ثبت في ذمّته مثلها أو قيمتها بكلّ حالٍ, لأنّها دخلت في ملكه وتلفت من ماله سواء فرّط في حفظها أو لم يفرّط, وإن جاء صاحبها بعد الحول ووجد العين ناقصةً أخذ العين وأرش نقصها, لأنّ جميعها مضمون إذا تلفت فكذلك إذا نقصت, لحديث زيد بن خالدٍ وأبي بن كعبٍ السّابقين, وإن وجد العين بعد خروجها من ملك الملتقط ببيع أو هبةٍ, لم يكن له الرجوع فيها, وله أخذ بدلها لأنّ تصرف الملتقط وقع صحيحاً لكونها صارت في ملكه, وإن وجدها رجعت إلى الملتقط بفسخ أو شراءٍ فله أخذها لأنّه وجد عين ماله في يد ملتقطه فكان له أخذه, وقيمة اللقطة تعتبر يوم التّملك, لأنّه يوم دخول العين في ضمانه.
13 - يرى أبو حنيفة في ظاهر الرّواية ومالك أنّ الملتقط إذا أخذ اللقطة ثمّ ردّها إلى مكانها الّذي أخذها منه فلا ضمان عليه, لأنّه أخذها محتسباً متبرّعاً ليحفظها على صاحبها, فإذا ردّها إلى مكانها فقد فسخ التّبرع من الأصل, فصار كأنّه لم يأخذها أصلاً, وهذا الحكم إذا أخذها ليحفظها لصاحبها ويعرف ذلك بالإشهاد عليها حين الالتقاط, أما إذا أخذها ليتملّكها فإنّه يضمن, وعند أبي يوسف ومحمّدٍ لا يضمن سواء أشهد أم لا, ويكون القول قول الملتقط مع يمينه. ويرى أحمد والشّافعي أنّ الملتقط إذا ردّ اللقطة بعد أخذها فضاعت أو هلكت ضمنها, لأنّها أمانة حصلت في يده فلزمه حفظها فإذا ضيّعها لزمه ضمانها كما لو ضيّع الوديعة, أما إذا ضاعت اللقطة من ملتقطها بغير تفريطٍ فلا ضمان عليه, لأنّها أمانة في يده, فإن ضاعت من الأوّل فالتقطها آخر فعرف أنّها ضاعت من الأوّل فعليه ردها إليه, لأنّه قد ثبت له حق التّمول, وولاية التّعريف والحفظ, فلا يزول ذلك بالضّياع, فإن لم يعرف الثّاني ممّن ضاعت حتّى عرّفها حولاً ملكها لأنّ سبب الملك وجد منه من غير عدوانٍ فيثبت الملك به, ولا يملك الأوّل انتزاعها منه, لأنّ الملك مقدّم على حقّ التّملك, وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثّاني وليس له مطالبة الأوّل لأنّه لم يفرّط في الحفظ.
14 - يرى جمهور الفقهاء مالك والشّافعي وأحمد جواز تملك الملتقط اللقطة إذا عرّفها للتّملك سنةً أو دونها ولم تعرف, وصارت من ماله سواء أكان غنياً أم فقيراً وتدخل في ملكه عند تمام التّعريف, كما أنّ الشّافعيّ يرى أنّ اللقطة لا تدخل ملك الملتقط حتّى يختار التّملك بلفظ يدل على الملك كتملّكت ما التقطته, أما الأخرس فتكفي إشارته المفهمة كسائر عقوده. ويرى أبو حنيفة أنّه لا يجوز تملك اللقطة والانتفاع بها إلا إذا كان الملتقط فقيراً, لما في ذلك من تحقيق النّظر من الجانبين, نظر الثّواب للمالك, ونظر الانتفاع للملتقط, ولهذا جاز الدّفع إلى فقيرٍ غيره, كما يجوز للملتقط أن يدفعها إلى أبيه أو ابنه أو زوجته إذا كانوا فقراء وإن كان هو غنياً. وولد اللقطة كاللقطة إن كانت حاملاً عند التقاطها وانفصل منها قبل تملكها, وإلا ملكه تبعاً لأمّه. ويرى الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا فرق بين الهاشميّ وغيره, ولا بين الغنيّ والفقير في جواز تملك اللقطة, أما أبو حنيفة فيرى أنّه لا يجوز تملك اللقطة لمن لا تحل له الصّدقة كالغنيّ. وإذا التقطها اثنان أو أكثر ملكاها جميعاً, وإن رآها أحدهما وأخذها الآخر ملكها الآخذ دون من رآها, لأنّ استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية كالاصطياد. واللقطة تملك ملكاً مراعىً يزول بمجيء صاحبها, ويضمن له بدلها إن تعذّر ردها, والظّاهر أنّه يملكها بغير عوضٍ يثبت في ذمّته, وإنّما يتجدّد وجوب العوض بمجيء صاحبها. واستدلّ من ذهب إلى جواز تملك اللقطة بعد حول التّعريف, بالحديث الشّريف: «من وجد لقطةً فليشهد ذا عدلٍ أو ذوي عدلٍ ولا يكتم ولا يغيّب ، فإن وجد صاحبها فليردّها عليه ، وإلا فهو مال اللّه عزّ وجلّ يؤتيه من يشاء». واستثنى الشّافعيّة من جواز التّملك الحالات الآتية: أ - اللقطة الّتي دفعها للحاكم وترك التّعريف والتّملك ثمّ ندم وأراد أن يعرّف ويتملّك فإنّه لا يمكن لأنّه أسقط حقّه. بـ - أخذ اللقطة للخيانة. ج - لقطة الحرم. قال ابن قدامة: وإذا مات الملتقط واللقطة موجودة عنده بعينها قام مورّثه مقامه بإتمام تعريفها إن مات قبل الحول, ويملكها بعد إتمام التّعريف, فإن مات بعد الحول ورثها الوارث كسائر أموال الميّت, فإن جاء صاحبها أخذها من الوارث كما يأخذها من المورّث, فإن كانت معدومة العين فصاحبها غريم للميّت بمثلها إن كانت من ذوات الأمثال, أو بقيمتها إن لم تكن كذلك, فيأخذ ذلك من تركته إن اتّسعت لذلك, فإن ضاقت التّركة زاحم الغرماء ببدلها, سواء تلفت بعد الحول بفعله أو بغير فعله, لأنّها دخلت في ملكه بمضيّ الحول, وإن علم أنّها تلفت قبل الحول بغير تفريطه فلا ضمان عليه, ولا شيء لصاحبها لأنّها أمانة في يده تلفت بغير تفريطه فلم يضمنها كالوديعة, وكذلك إن تلفت بعد الحول قيل يملكها من غير تفريطٍ على رأي من رأى أنّها لا تدخل في ملكه حتّى يتملّكها وذلك في الرّاجح عند الشّافعيّة.
15 - ذهب الفقهاء إلى أنّ يد الملتقط على اللقطة يد أمانةٍ وحفظٍ خلال الحول, ولذلك لا يجوز له الاتّجار فيها خلال هذه المدّة, لأنّ في ذلك تعريضاً للهلاك أو الضّياع أو النّقص بفعل من الملتقط عن قصدٍ, إذ التّجارة تحتمل الرّبح والخسارة, والملتقط ممنوع من تعريض ما التقطه للهلاك أو الضّياع أو النقصان, وإذا اتّجر فيها خلال الحول فهو ضامن لها, أو ضامن لأرش نقصها عند جمهور الفقهاء, وإذا ربحت خلال الحول وجاء صاحبها فيجب على الملتقط ردها إليه مع زيادتها المتّصلة أو المنفصلة.
16 - اللقطة خلال مدّة التّعريف إمّا أن تحتاج إلى نفقةٍ للإبقاء عليها كما هو الحال بالنّسبة إلى الأنعام مثل نفقة الطّعام والشّراب وأجرة الرّاعي, وإمّا أن لا تحتاج إلى نفقةٍ كما في النقود, وإمّا أن تحتاج إلى بعض النّفقة كما في أجرة الحمل بالنّسبة للأمتعة, وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ملتقط الأنعام إذا أنفق عليها بإذن الحاكم وأمره كان ما أنفقه ديناً على صاحبها لأنّ للحاكم والقاضي ولاية في مال الغائب نظراً له, وقد يكون النّظر بالإنفاق, وكذلك الحال إذا أنفق بغير إذن الحاكم على رأي مالكٍ بينما يرى الأئمّة الثّلاثة أنّه إن أنفق عليها بغير إذن الحاكم أو القاضي فهو متبرّع بما أنفقه لقصور ولايته في مال الغائب بإشغال ذمّته بالدّين بدون أمره, ويجري الخلاف السّابق فيما إذا التقط ما يمكن بقاؤُه بلا إنفاقٍ عليه كالرطب الّذي يتتمّر والعنب الّذي يتزبّب واللّبن الّذي يتحوّل إلى أقطٍ إن كان الأحظّ والأفضل لصاحبه الإبقاء عليه والاحتفاظ به, وإلا أمره القاضي ببيعه والاحتفاظ بثمنه. وإذا رفع الملتقط الأمر إلى الحاكم نظر فيه, فإن كان للبهيمة منفعة وثمّ من يستأجرها أجّرها وأنفق عليها من أجرتها, لأنّ فيه إبقاءً للعين على ملك صاحبها من غير إلزام الدّين عليه, وإن لم يكن لها منفعة وخاف أن تستغرق النّفقة قيمتها باعها وأمر بحفظ ثمنها, إبقاءً له معنىً عند تعذر إبقائه صورةً, لأنّ الثّمن يقوم مقام العين إذ يصل به إلى مثله في الجملة, وإن كان الأصلح الإنفاق عليها أذن في ذلك وجعل النّفقة ديناً على مالكها, لأنّه نصب ناظراً, وفي هذا نظر من الجانبين, وإنّما يأمر بالإنفاق مدّة يومٍ أو يومين على قدر ما يرجى أن يظهر مالكها, فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لأنّ دوام النّفقة مستأصلة بالعين معنىً, بل ربّما تذهب بالعين ويبقى الدّين على مالكها ولا نظر في ذلك أصلاً, بل ينبغي أن لا ينفذ ذلك من القاضي لو أمر به للتّيقن بعدم النّظر, وإذا باعها أعطي الملتقط من ثمنها ما أنفق في اليومين أو الثّلاثة, لأنّ الثّمن مال صاحبها والنّفقة دين عليه بعلم القاضي, وصاحب الدّين إذا ظفر بجنس حقّه كان له أن يأخذه, فإن باعها الملتقط بغير إذن القاضي لا ينفذ البيع ويتوقّف على إذن المالك, فإن جاء وهي قائمة في يد المشتري فإن شاء أجاز البيع وإن شاء أبطله وأخذها من يده, وإن جاء وهي هالكة فإن شاء ضمّن المشتري قيمتها, وإن شاء ضمّن البائع, فإن ضمن البائع نفذ البيع لأنّه ملك اللقطة من حين أخذها, وكان الثّمن للبائع ويتصدّق بما زاد على القيمة. وإذا حضر المالك وقد أنفق عليها الملتقط فله أن يمنعها منه حتّى يحضر النّفقة, لأنّها حيّة بنفقته, فصار المالك كأنّه استفاد الملك من جهة الملتقط فأشبه المبيع, ثمّ لا يسقط دين النّفقة بهلاك اللقطة في يد الملتقط قبل الحبس, ويسقط إذا هلك بعد الحبس لأنّها تصير بالحبس شبيهةً بالرّهن من حيث تعلق حقّه بها. أما إن أنفق الملتقط على اللقطة وانتفع بها كأن تكون دابّةً فركبها أو ماشيةً فحلبها وشرب لبنها فلا يرجع على مالكها بالنّفقة.
17 - ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّصدق باللقطة إذا عرّفها الملتقط ولم يحضر صاحبها مدّة التّعريف, ولا يتوقّف ذلك على إذن الحاكم, ويتصدّق بها على الفقراء والمساكين. ويرى أبو حنيفة أنّ صاحب اللقطة إذا جاء بعدما تصدّق بها الملتقط فهو بأحد خياراتٍ ثلاثٍ: أ - إن شاء أمضى الصّدقة, لأنّ التّصدق وإن حصل بإذن الشّرع لم يحصل بإذن المالك, فيتوقّف على إجازته, وحصول الثّواب للإنسان يكون بفعل مختارٍ له, ولم يوجد ذلك قبل لحوق الإذن والرّضا, فبالإجازة والرّضا يصير كأنّه فعله بنفسه لرضاه بذلك. ب - وإن شاء ضمن الملتقط, لأنّه سلّم ماله إلى غيره بغير إذنه, إلا أنّه بإباحة من جهة الشّرع, وهذا لا ينافي الضّمان حقاً للعبد, كما في تناول مال الغير حالة المخمصة, والمرور في الطّريق مع ثبوت الضّمان. ج - وإن شاء ضمن المسكين إذا هلك المدفوع إليه في يده, لأنّه قبض ماله بغير إذنه, وأيّها ضمن لم يرجع على صاحبه.
18 - سبق القول أنّ ملك المالك لا يزول إلا بسبب مشروعٍ, وقد يظهر من فعله ما يدل على تخلّيه عن ملكه لعدم حاجته, أو لتقصيره عن النّفقة عليه, أو لحقارة ما فقده أو سقط منه, فإن علم أنّ المالك قد تخلّى عنه لما تقدّم فيجوز أخذه وتملكه, ولا يعرّفه الآخذ لأنّ التّعريف إنّما يكون من أجل معرفة صاحبه والوصول إليه لردّ ما فقده, أما وأنّ المالك قد تخلّى عنه فلا يرد إليه, كما في إلقاء بعض الأثاث في مواضع القمامة أو خارج البيوت ليلاً, وكما هو الحال بالنّسبة للسّنابل السّاقطة أثناء الحصاد وعلى الطرقات وكسقوط السّوط والعصا وحبّاتٍ من التّمر في الطّريق, فمثل هذه الأشياء يجوز أخذها والانتفاع بها ولا تعرّف.
19 - يرى جمهور الفقهاء جواز أخذ الجُعل, إن جعل صاحب اللقطة جعلاً معلوماً لمن وجدها, فللملتقط أخذ الجعل إن كان التقطها بعد أن بلغه الجعل, لأنّ الجعالة في ردّ الضّالّة والآبق وغيرهما جائزة بدليل قوله تعالى: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ}. ومن الحديث ما رواه أبو سعيدٍ الخدري رضي الله عنه: «أنّ ناساً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتوا حياً من العرب فلم يقروهم ، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيّد أولئك فقالوا: هل فيكم راقٍ ؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل حتّى تجعلوا لنا جُعلاً فجعلوا لهم قطيع شياهٍ ، فجعل رجل يجمع بزاقه ويتفل ويقرأ بأمّ القرآن ، فبرأ الرّجل فأتوا بالشّاء فقالوا: لا نأخذها حتّى نسأل عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، فسألوه فقال: وما يدريك أنّها رقية ، اقسموا واضربوا لي معكم سهماً». والحاجة تدعو أحياناً كثيرةً إلى جعل جُعلٍ على ردّ اللقطة, طلباً للسرعة في ردّها, ولأنّه قد لا يجد من يتبرّع به. ويجوز أن يجعل الجعل لشخص بعينه فيقول: إن رددت لقطتي فلك دينار مثلاً, فيجتهد هذا في البحث عنها وردّها, ويجوز أن يجعل الجعل لغير معيّنٍ فيقول: من ردّ عليّ ضالّتي فله كذا فمن ردّها عليه استحق الجعل, أما إن ردّ اللقطة أو الضّالّة على صاحبها ولم يجعل جعلاً عليها فلا يستحق شيئاً, لأنّه عمل يستحق به العوض مع المعاوضة فلا يستحق مع عدمها كالعمل في الإجارة, كما أنّه لا يستحق الجعل إن التقط قبل أن يبلغه الجعل فردّها لعلّة الجُعل, لأنّه التقطها بغير عوضٍ, وعمل في مال غيره بغير جُعْلٍ جُعِلَ فلا يستحق شيئًا, كما لو التقطها ولم يجعل ربها فيها شيئاً.
20 - يشترط لردّ اللقطة إلى صاحبها أن يصفها ويتعرّف عليها بذكر علاماتٍ تميّزها عن غيرها, كذكر عددها أو بعض علامات الدّابّة ومكان فقدها وما أشبه ذلك, أو يثبت أنّها له بالبيّنة, فإذا ذكر علاماتها من العفاص والوكاء والعدد والوزن فيجوز للملتقط أن يدفعها إليه, وإن شاء أخذ منه كفيلاً زيادةً في الاستيثاق, لأنّ ردّها إليه إذا وصفها ممّا ورد به الشّرع, وهذا باتّفاق الفقهاء, ولكنّهم اختلفوا بعد ذلك هل يجبر قضاءً على ردّها لصاحبها بمجرّد ذكر علاماتها المميّزة أم لا بدّ من البيّنة على النّحو التّالي: ذهب الحنفيّة والشّافعيّة في الرّاجح من المذهب إلى أنّ الملتقط لا يجبر على تسليم اللقطة إلى مدّعيها بلا بيّنةٍ, لأنّه مدّعٍ فيحتاج إلى بيّنةٍ كغيره, ولأنّ اللقطة مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة, لكن يرى الحنفيّة جواز تسليمها لمدّعيها عند إصابة علامتها, كما يرى الشّافعيّة جواز تسليمها إذا غلب على ظنّ الملتقط صدق مدّعيها. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «... فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إيّاه ، وإلا فهي لك». وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ الملتقط يجبر على تسليم اللقطة لصاحبها إذا وصفها بصفاتها المذكورة, سواء غلب على ظنّه صدقه أم لا, ولا يحتاج إلى بيّنةٍ, عملاً بظاهر حديث زيد بن خالدٍ الجهنيّ السّابق وفيه: «... اعرف وكاءها وعفاصها ، ثمّ عرّفها سنةً ، فإن لم تعرف فاستنفقها ، ولتكن وديعةً عندك ، فإن جاء طالبها يوماً من الدّهر فأدّها إليه». وقولـه صلى الله عليه وسلم: «فإن جاء أحد يخبرك بعددها ووعائها ووكائها فأعطها إيّاه». ولأنّه من المتعذّر إقامة البيّنة على اللقطة, لأنّها ضاعت من صاحبها حال السّهو والغفلة وليس عنده شهود في هذه الحالة, ويمكن أن يكون ذكر الأوصاف والعفاص والوكاء من البيّنة. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الملتقط لا يجوز له أن يدفعها لمدّعيها إذا لم يصفها بصفاتها ولم يقم بيّنةً عليها, ولم يعلم الملتقط أنّها له, ولا يجبره الحاكم على دفعها إليه, لأنّ النّاس لا يعطون بمجرّد الدّعوى, فإن ادّعاها اثنان ووصفاها, أو أقاما بيّنتين متساويتين أقرع الملتقط بينهما, فمن وقعت له القرعة حلف ودفعت إليه, لأنّهما تساويا فيما يستحق به الدّفع فتساويا فيه.
21 - يرى جمهور الفقهاء أنّه لا فرق بين لقطة الحلّ ولقطة الحرم من حيث جواز الالتقاط والتّعريف لمدّة سنةٍ, لأنّ اللقطة كالوديعة فلم يختلف حكمها بالحلّ والحرم, والأحاديث النّبويّة الشّريفة لم تفرّق بين لقطة الحلّ والحرم, مثل قوله: «اعرف وكاءها وعفاصها ثمّ عرّفها سنةً». ويرى الشّافعي أنّ لقطة الحرم لا يحل أخذها إلا للتّعريف وأنّها تعرّف على الدّوام, إذ أنّ الأحاديث الخاصّة بلقطة الحرم لم توقّت التّعريف بسنة كغيرها, فدلّت على أنّه أراد التّعريف على الدّوام, وإلا فلا فائدة من التّخصيص, ولأنّ مكّة شرّفها اللّه, مثابة للنّاس يعودون إليها المرّة بعد المرّة, فربّما يعود مالكها من أجلها مرّةً ثانيةً, أو يبعث في طلبها, فكأنّه جعل ماله به محفوظاً من الضّياع.
22 - من وجد لقطةً في دار الحرب فإن كان في الجيش عرّفها سنةً في دار الإسلام ثمّ يطرحها في المغنم, وإنّما يعرّفها في دار الإسلام لأنّ أموال أهل الحرب مباحة, ويجوز أن تكون لمسلم, ولأنّه قد لا يمكنه المقام في دار الحرب لتعريفها, وابتداء التّعريف يكون في الجيش الّذي هو فيه, لاحتمال أنّها لأحد أفراده, فإذا قفل راجعاً أتمّ التّعريف في دار الإسلام, أما إن دخل دار الحرب بأمان فوجد لقطةً فينبغي أن يعرّفها في دارهم, لأنّ أموالهم محرّمة عليه, فإذا لم تعرّف ملكها كما يملكها في دار الإسلام, وإن دخل دارهم متلصّصاً فوجد لقطةً عرّفها في دار الإسلام, لأنّ أموالهم مباحة له, ثمّ يكون حكمها حكم غنيمته.
23 - اللقطة الّتي لا يعرف عنها صاحبها شيئاً لا يجب عليه زكاتها خلال فترة فقدها وضياعها, لأنّ ملكه لها ليس تامّاً إذ أنّها ليست تحت يده حتّى يتصرّف فيها, ولا يزكّيها الملتقط في عام التّعريف لأنّه لا يملكها خلال هذه المدّة, فإذا جاء صاحب اللقطة خلال حول التّعريف زكّاها للحول الّذي كان الملتقط ممنوعاً منها إن بلغت النّصاب, فإن كانت ماشيةً فإنّما تجب زكاتها على صاحبها إذا كانت سائبةً عند الملتقط, فإن علفها فلا زكاة على صاحبها, وزكاتها بعد الحول الأوّل على الملتقط في ظاهر مذهب أحمد لأنّها تدخل في ملكه كالميراث فتصير كسائر ماله. أما إذا أخذ اللقطة للتّملك فإنّه يزكّيها للعام الّذي عرّفها فيه, فإذا جاء صاحبها لم يزكّها لذلك الحول, ولا يرجع الملتقط على مالكها بزكاتها كما يرجع عليه بالنّفقة عليها.
1 - اللّقيط في اللغة: الطّفل الّذي يوجد مرمياً على الطرق لا يعرف أبوه ولا أمه. وفي المصباح: وقد غلب اللّقيط على المولود المنبوذ. واصطلاحاً عرّفه الحنفيّة بأنّه: اسم لحيّ مولودٍ طرحه أهله خوفاً من العيلة أو فراراً من تهمة الرّيبة. وعرّفه ابن عرفة من المالكيّة بأنّه: صغير آدمي لم يعلم أبوه ولا رقه. وعرّفه الشّافعيّة بأنّه: كل صبيٍّ ضائعٍ لا كافل له. وعرّفه الحنابلة بأنّه: طفل غير مميّزٍ لا يعرف نسبه ولا رقه طرح في شارعٍ أو ضلّ الطّريق ما بين ولادته إلى سنّ التّمييز.
أ - اللقطة: 2 - اللقَطة في اللغة - بفتح القاف كما قال الأزهري - اسم الشّيء الّذي تجده ملقىً فتأخذه. واللّقط - بفتحتين - ما يلقط من معدنٍ وسنبل وغيره, واللقطة: ما التقط.
وشرعاً هي: مال يوجد ضائعاً. قال ابن عابدين: وخصّ اللّقيط ببني آدم, واللقطة بغيرهم للتّمييز بينهما. ب - الضّائع: 3 - الضّائع في اللغة من ضاع الشّيء يضيع ضياعاً: إذا فقد وهلك, وخصّه أهل اللغة بغير الحيوان كالعيال والمال, يقال: أضاع الرّجل عياله وماله. ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. وعلى ذلك فالضّائع أعم من اللّقيط لأنّه يشمل الإنسان والمال.
4 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ التقاط المنبوذ فرض كفايةٍ إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وإلا أثموا جميعاً لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} ولأنّ فيه إحياء نفسٍ, قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} إذ بإحيائها يسقط الحرج عن النّاس لأنّه آدمي محترم. وقال الشّافعيّة والمالكيّة: هذا إذا لم يوجد غيره سيراه, فإن علم أنّه لا يوجد غيره كان التقاطه فرض عينٍ. وذهب الحنفيّة إلى أنّ التقاط المنبوذ مندوب إليه لما روي أنّ رجلاً أتى سيّدنا علياً رضي الله تعالى عنه بلقيط فقال: هو حر ولأن أكون وليت من أمره مثل الّذي وليت أنت كان أحبّ إليّ من كذا وكذا ، عدّ جملةً من أعمال الخير, فقد رغب في الالتقاط وبالغ في التّرغيب فيه حيث فضلّه على جملةٍ من أعمال الخير على المبالغة في النّدب إليه, ولأنّه نفس لا حافظ لها بل هي مضيعة فكان التقاطها إحياءً لها معنىً. وهذا إذا لم يغلب على ظنّه هلاكه, فإن غلب على ظنّه هلاكه لو لم يرفعه بأن وجده في مفازةٍ ونحوها من المهالك كان التقاطه فرض كفايةٍ, وإذا كان لا يعلم به غيره كان التقاطه فرض عينٍ.
5 - قال المالكيّة: ينبغي للملتقط الإشهاد عند الالتقاط على أنّه التقطه خوف طول الزّمان فيدّعي الولديّة أو الاسترقاق, فإن تحقّق أو غلب على الظّنّ ذلك وجب الإشهاد. وقال الشّافعيّة: يجب الإشهاد على الالتقاط في الأصحّ وإن كان الملتقط مشهور العدالة لئلا يسترقّ ويضيع نسبه, ويجب الإشهاد على ما معه بطريق التّبعيّة. ومقابل الأصحّ: لا يجب الإشهاد اعتماداً على الأمانة. ومحل وجوب الإشهاد ما لم يسلّمه له الحاكم فإن سلّمه له سُنّ ولا يجب. وقال الحنابلة: يستحب للملتقط الإشهاد عليه كاللقطة دفعاً لنفسه لئلا تراوده باسترقاقه, كما يستحب الإشهاد على ما مع اللّقيط من مالٍ صوناً لنفسه عن جحده.
6 - الملتقط أحق بإمساك اللّقيط من غيره وليس لغيره أن يأخذه منه لأنّه هو الّذي أحياه بالتقاطه ولأنّه مباح الأخذ سبقت يد الملتقط إليه, والمباح مباح من سبق لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به», وهذا أصل متّفق عليه بين المذاهب إذا تحقّقت في الملتقط الشروط الّتي اعتبرها كل مذهبٍ فإن تخلّف شرط منها انتزع من يده. 7 - وعلى ذلك فإنّ الحاكم ينتزعه من يد الملتقط في الأحوال الآتية: أ - إذا التقطه صبي أو مجنون لعدم أهليّتهما وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وهو ما يفهم من كلام المالكيّة. ب - إذا التقطه محجور عليه لسفه فإنّه ينتزع منه لأنّه لا ولاية له على نفسه فعلى غيره أولى, وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة, ولا يشترط ذلك عند الحنفيّة إذ يجوز عندهم التقاط السّفيه ولا ينتزع من يده فقد قال ابن عابدين العبد المحجور عليه يصح التقاطه فالمحجور لسفه أولى. ج - إذا التقطه فاسق فإنّه ينتزع منه لأنّ العدالة شرط في إقراره في يد الملتقط وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة. قال الشّافعيّة: وأمّا من ظاهر حاله الأمانة: إلا أنّه لم يختبر فلا ينتزع من يده لكن يوكّل القاضي به من يراقبه بحيث لا يعلم لئلا يتأذّى. وقال الحنابلة: إذا التقط اللّقيط من هو مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة أقرّ اللّقيط في يديه, لأنّ حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النّكاح والشّهادة فيه, ولأنّ الأصل في المسلم العدالة, ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعضٍ. ولا يشترط ذلك عند الحنفيّة فقد جاء في حاشية ابن عابدين: التقاط الكافر صحيح والفاسق أولى, لكن قال ابن عابدين لو كان الملتقط فاسقاً فإنّه ينتزع منه إن خشي عليه الفجور باللّقيط فينتزع منه قبل حدّ الاشتهاء. د - إذا التقطه عبد دون إذن سيّده فإنّه ينتزع منه فإن أذن له السّيّد في التقاطه أو علم السّيّد بعد التقاطه وأقرّه في يده فلا ينتزع منه وكان السّيّد هو الملتقط وهو نائبه في الأخذ والتّربية, وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة. ولم يشترط الحنفيّة الحرّيّة في الالتقاط فقالوا: يصح التقاط العبد المحجور عليه. هـ - إذا التقطه كافر وكان اللّقيط محكوماً بإسلامه فإنّه ينتزع منه لأنّه يشترط الإسلام في التقاط المسلم ولأنّ الكفالة ولاية ولا ولاية للكافر على المسلم ولأنّه لا يؤمن أن يفتنه في دينه, فإن كان اللّقيط محكوماً بكفره أقرّ في يده لأنّه على دينه, ولأنّ الّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ, وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة, ولم يشترط الحنفيّة الإسلام فيمن يلتقط. و - وقد ذكر الحنفيّة شرطاً عاماً وهو كون الملتقط أهلاً لحفظ اللّقيط, قالوا: وينبغي أن ينتزع منه إذا لم يكن أهلاً لحفظه, كما أنّه لا يشترط أن يكون الملتقط ذكراً عند جميع الفقهاء فيصح التقاط المرأة ولا ينتزع منها إلا أنّ المالكيّة قيّدوا ذلك بما إذا كانت المرأة حرّةً خاليةً من الأزواج أو كانت ذات زوجٍ وأذن لها زوجها. ز - في وجهٍ عند الشّافعيّة أنّه إذا التقطه فقير فإنّه لا يقر في يده, لأنّه لا يقدر على القيام بحضانته وفي ذلك إضرار باللّقيط, والوجه الثّاني أنّه يقر في يده لأنّ اللّه تعالى يقوم بكفاية الجميع. هذا ما ذكره الشّيرازي إلا أنّ النّوويّ ذكر بأنّ الصّحيح أنّه لا يشترط الغني.
8 - ذكر حكم السّفر باللّقيط الشّافعيّة والحنابلة مع تفصيلٍ لكلّ منهما بيانه فيما يلي: فرّق الشّافعيّة بين التقاط المقيم في مكانٍ والغريب عن مكان الملتقط فقالوا: أ - الأصح أنّ الغريب إذا كان أميناً واختبرت أمانته ووجد لقيطاً ببلد فله أن ينقله إلى بلده لتقارب المعيشة لكن بشرط أمن الطّريق وتواصل الأخبار, فإن لم تختبر أمانته وجهل حاله لم يقرّ في يده لأنّه لا يؤمن أن يسترقّه إذا غاب. ومقابل الأصحّ لا يجوز له نقله خشية ضياع النّسب. ب - وقال الشّافعيّة: إذا وجد بلدي لقيطاً ببلد فليس له نقله إلى باديةٍ لخشونة عيشها وتفويت العلم والدّين والصّنعة, وقيل لضياع النّسب. والأصح أنّ له نقله إلى بلدٍ آخر. وهذا الخلاف إنّما هو عند أمن الطّريق وتواصل الأخبار, فإن كان الطّريق مخوفاً أو انقطعت الأخبار بينهما لم يقرّ اللّقيط في يده قطعاً. ولم يفرّق الجمهور - أي جمهور فقهاء الشّافعيّة - بين مسافة القصر ودونها, وجعل الماورديّ الخلاف في مسافة القصر وقطع فيما دونها بالجواز ومنعه في الكفاية, وما عليه الجمهور هو المعتمد. ج - وإن وجد اللّقيط بلدي ببادية في حِلّةٍ أو قبيلةٍ فله نقله إلى قريةٍ وإلى بلدٍ يقصده لأنّه أرفق به, وقيل وجهان, فإن كانت البادية في مهلكةٍ فله نقله لمقصده قطعاً. د - وإن وجد اللّقيط بدوي ببادية أقرّ بيده وإن كان أهل حلّته ينتقلون لأنّها في حقّه كبلدة أو قريةٍ, وقيل: إن كانوا ينتقلون للنجعة - أي الانتقال لطلب المرعى - لم يقرّ في يده لأنّ فيه تضييعاً لنسبه. قال الرّملي: وعلم ممّا تقرّر أنّ للملتقط نقل اللّقيط من بلدٍ أو قريةٍ أو باديةٍ لمثله أو أعلى منه لا لدونه, وأنّ شرط جواز النّقل مطلقاً إن أمن الطّريق والمقصد وتواصل الأخبار واختبار أمانة الملتقط. ويفرّق الحنابلة بين السّفر باللّقيط لغير النّقلة والسّفر به إلى مكانٍ للإقامة به. كما يفرّقون بين الملتقط إذا كان مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة وبين من عرفت عدالته وظهرت أمانته. قال ابن قدامة: من كان مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة وأراد السّفر باللّقيط ففيه وجهان: أحدهما: لا يقرّ في يديه, لأنّه لم يتحقّق أمانته فلم تؤمن الخيانة منه. والثّاني: يقر في يديه, لأنّه يقر في يديه في الحضر من غير مشرفٍ يضم إليه فأشبه العدل ولأنّ الظّاهر السّتر والصّيانة. أما من عرفت عدالته وظهرت أمانته فيقر اللّقيط في يده في سفره وحضره, لأنّه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة. فإن كان سفر الملتقط الأمين باللّقيط إلى مكانٍ يقيم به نظرنا, فإن كان التقطه من الحضر فأراد الانتقال به إلى البادية لم يقرّ في يده, لأنّ مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفه له, ولأنّه إذا وجد في الحضر فالظّاهر أنّه ولد فيه فبقاؤُه فيه أرجى لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به. فإن أراد الانتقال به إلى بلدٍ آخر من الحضر ففيه وجهان: أحدهما: لا يقر في يده, لأنّ بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه, فلم يقرّ في يد المنتقل عنه قياساً على المنتقل به إلى البادية. والوجه الثّاني: يقر في يده, لأنّ ولايته ثابتة, والبلد الثّاني كالأوّل في الرّفاهية فيقر في يده كما لو انتقل من أحد جانبي البلد إلى الجانب الآخر. وإن كان الالتقاط من البادية فله نقله إلى الحضر, لأنّه ينقله من أرض البؤس والشّقاء إلى الرّفاهية والدّعة والدّين, وإن أقام في حلّةٍ يستوطنها فله ذلك. وإن كان ينتقل به إلى المواضع احتمل أن يقر في يديه لأنّ الظّاهر أنّه ابن بدويّين وإقراره في يد ملتقطه أرجى لكشف نسبه, ويحتمل أن يؤخذ منه فيدفع إلى صاحب قريةٍ, لأنّه أرفه له وأخف عليه. وكل موضعٍ قلنا ينزع من ملتقطه فإنّما يكون ذلك إذا وجد من يُدفع إليه ممّن هو أولى به فإن لم يوجد من يقوم به أقرّ في يدي ملتقطه, وإن لم يوجد إلا مثل ملتقطه فملتقطه أولى به إذ لا فائدة في نزعه من يده.
9 - ذهب الفقهاء إلى أنّ اللّقيط حر من حيث الظّاهر لأنّ الأصل في بني آدم إنّما هو الحرّيّة فإنّ اللّه تعالى خلق آدم وذرّيّته أحراراً وإنّما الرّق لعارض فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الأصل, وقد روي هذا عن عمر وعليٍّ وبه قال عمر بن عبد العزيز والشّعبي والحكم وحمّاد والثّوري وإسحاق. وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في: (رقّ ف 3 وما بعدها).
10 - اختلف الفقهاء في الأصل الّذي يحكم به على اللّقيط من حيث الإسلام أو الكفر, هل يكون الأصل في ذلك هو الدّار الّتي وجد فيها من حيث كونها دار إسلامٍ أو دار كفرٍ أو أنّ الأصل في ذلك هو حال الواجد من كونه مسلماً أو غير مسلمٍ ؟ فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المعتبر في ذلك هو الدّار الّتي يوجد فيها اللّقيط فإن كانت الدّار دار إسلامٍ حكم بإسلامه تبعاً للدّار الّتي وجد فيها, والدّار الّتي تعتبر دار إسلامٍ عندهم هي: أ - دار يسكنها المسلمون ولو كان فيها أهل ذمّةٍ تغليباً للإسلام ولظاهر الدّار ولأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ب - دار فتحها المسلمون وقبل ملكها أقروها بيد الكفّار صلحاً. ج - دار فتحها المسلمون وملكوها عنوةً وأقروا أهلها عليها بجزية. د - دار كان المسلمون يسكنونها ثمّ أجلاهم الكفّار عنها. ففي هذه الأماكن يعتبر اللّقيط الّذي يوجد فيها مسلماً لكن بشرط أن يوجد بها مسلم يمكن أن يكون اللّقيط منه لأنّه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام. فإن لم يكن فيها مسلم, بل كان جميع من فيها كفّاراً فهو كافر كما إذا وجد بدار كفّارٍ لم يسكنها مسلم يحتمل إلحاقه به, فإن كانت الدّار دار كفرٍ وكان فيها مسلمون كتجّار وأسرى فأصح الوجهين عند الشّافعيّة وفي احتمالٍ للحنابلة أنّ اللّقيط فيها يعتبر مسلماً تغليباً للإسلام, وفي الوجه الثّاني عند الشّافعيّة والاحتمال الآخر للحنابلة يحكم بكفره تغليباً للدّار والأكثر. وعند الحنفيّة لا يخلو حال اللّقيط من أمورٍ أربعةٍ: أ - أن يجده مسلم في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في قريةٍ من قراهم, فإنّه في هذه الحالة يحكم بإسلامه حتّى لو مات يغسّل ويصلّى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. ب - أن يجده ذمّي في بيعةٍ أو كنيسةٍ أو في قريةٍ ليس فيها مسلم فإنّه يكون ذمّياً تحكيماً للظّاهر. ج - أن يجده مسلم في بيعةٍ أو كنيسةٍ أو في قريةٍ من قرى أهل الذّمّة فإنّه يكون ذمّياً أيضاً. د - أن يجده ذمّي في مصرٍ من أمصار المسلمين أو في قريةٍ من قراهم فإنّه يكون مسلماً. كذا ذكر في كتاب اللّقيط من الأصل واعتبر المكان, وروى ابن سماعة عن محمّدٍ أنّه اعتبر حال الواجد من كونه مسلماً أو ذمّياً, وفي كتاب الدّعوى اعتبر الإسلام إلى أيّهما نسب إلى الواجد أو إلى المكان, قال الكاساني: والصّحيح رواية هذا الكتاب - أي كتاب اللّقيط, وقد صرّح به في العناية على الهداية - لأنّ الموجود في مكانٍ هو في أيدي أهل الإسلام وتصرفهم في أيديهم, واللّقيط الّذي هو في يد المسلم وتصرفه يكون مسلماً ظاهراً, والموجود في المكان الّذي هو في أيدي أهل الذّمّة, وتصرفهم في أيديهم, واللّقيط الّذي هو في يد الذّمّيّ وتصرفه يكون ذمّياً ظاهراً فكان اعتبار المكان أولى. وفي بعض الرّوايات يعتبر الزّي والعلامة, جاء في فتح القدير وفي كفاية البيهقيّ: قيل يعتبر بالسّيما والزّيّ لأنّه حجّة, قال اللّه تعالى: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ}, {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}. وقال المالكيّة: إذا وجد اللّقيط في بلاد المسلمين فإنّه يحكم بإسلامه, لأنّه الأصل والغالب وسواء التقطه مسلم أو كافر, وإذا وجد في قريةٍ ليس فيها من المسلمين سوى بيتين أو ثلاثةٍ فإنّه يحكم بإسلامه أيضاً تغليباً للإسلام بشرط أن يكون الّذي التقطه مسلم, فإن التقطه ذمّي فإنّه يحكم بكفره على المشهور, ومقابل المشهور ما قاله أشهب وهو أنّه يحكم بإسلامه مطلقاً أي سواء التقطه مسلم أو كافر. وإذا وجد في قرى الشّرك فإنّه يحكم بكفره سواء التقطه مسلم أو كافر تغليباً للدّار والحكم للغالب وهو قول ابن القاسم, وأمّا أشهب فيقول: إن التقطه مسلم فهو مسلم تغليباً لحكم الإسلام لأنّه يعلو ولا يعلى عليه.
11 - إذا ادّعى اللّقيط شخص واحد سواء أكان هو الملتقط أو غيره فإن كان رجلاً مسلماً حراً لحق نسبه به إن أمكن أن يكون منه بأن تتحقّق فيه شروط الاستلحاق, وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة لأنّ الإقرار محض نفعٍ للطّفل لاتّصال نسبه, ولا مضرّة على غيره فيه فقبل كما لو أقرّ له بمال. وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة أيضاً في الاستحسان لأنّ في إثبات النّسب نظراً من الجانبين, جانب اللّقيط بشرف النّسب والتّربية والصّيانة عن أسباب الهلاك وغير ذلك, وجانب المدّعي بولد يستعين به على مصالحه الدّينيّة والدنيويّة. وفي القياس عند الحنفيّة لا تسمع الدّعوى إلا ببيّنة لأنّه يدّعي أمراً جائز الوجود والعدم فلا بدّ لترجيح أحد الجانبين على الآخر من مرجّحٍ وذلك بالبيّنة ولم توجد. وإذا كان المدّعي ذمّياً تصح دعواه ويثبت نسبه منه لكنّه يكون مسلماً لأنّه - كما يقول الكاساني - ادّعى شيئين يتصوّر انفصال أحدهما عن الآخر في الجملة وهو نسب الولد وكونه كافراً, ويمكن تصديقه في أحدهما لكونه نفعاً للّقيط وهو كونه ابناً له ولا يمكن تصديقه في الآخر لكونه ضرراً به وهو كونه كافراً فيصدّق فيما فيه نفعه فيثبت نسب الولد منه, ولا يصدّق فيما يضره فلا يحكم بكفره, وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة قالوا: ولا حقّ له أيضاً في حضانته. وقالوا: إنّما يكون مسلماً في ادّعاء الذّمّيّ له إذا كان ذلك عن طريق الإقرار أما إذا أقام الذّمّي بيّنةً على أنّ اللّقيط ابنه ثبت نسبه منه ويكون على دينه خلافاً للإقرار. وإذا كان المدّعي عبداً تصح دعواه ويثبت نسبه منه لكنّه يكون حراً لأنّه ادّعى شيئين أحدهما نفع للّقيط والآخر مضرّة هو الرّق فيصدّق فيما ينفعه لا فيما يضره, ولا حضانة للعبد عليه لاشتغاله بالسّيّد فيضيع فلا يتأهّل للحضانة, فإذا أذن السّيّد جاز لانتفاء مانع الشغل, كما أنّه لا تجب عليه نفقته لأنّه لا مال له ولا على سيّده, لأنّ الطّفل محكوم بحرّيّته فتكون نفقته في بيت المال, وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والشّافعيّة في المذهب والحنابلة. وفي قولٍ عند الشّافعيّة يلحق الملتقط بالعبد إن صدّقه السّيّد وقيل لا يلحق مطلقاً, وقيل: يلحق قطعاً إن كان مأذوناً له في النّكاح ومضى زمان إمكانه وإلا فقولان. وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا ادّعى اللّقيط الملتقط أو غيره فلا يلحق نسبه به إلا بأحد أمرين: الأمر الأوّل: أن يأتي المدّعي ببيّنة تشهد له بأنّه ابنه ولا يكفي قول البيّنة ذهب له ولد أو طرح, فإن أقام البيّنة لحق به سواء كان اللّقيط محكوماً بإسلامه أو كفره وسواء كان المستلحق له الّذي شهدت له البيّنة مسلماً أو كافراً. الأمر الثّاني: أن يكون لدعواه وجه كرجل عرف أنّه لا يعيش له ولد فزعم أنّه رماه لقول النّاس: إذا طرح عاش ونحوه ممّا يدل على صدقه فإنّه يلحق بصاحب الوجه المدّعي, سواء كان اللّقيط محكوماً بإسلامه أو كفره وسواء كان المستلحق له صاحب الوجه مسلماً أو كافراً وهذا على ما ذهب إليه ابن عرفة والتّتائي وعبد الرّحمن الأجهوري, وذهب آخرون إلى أنّه لا يلحق بصاحب الوجه إلا إذا كان صاحب الوجه مسلماً وأمّا إذا استلحقه ذمّي فلا بدّ من البيّنة. 12 - وإن ادّعى نسب اللّقيط اثنان, مسلم وكافر أو حر وعبد فهما سواء, لأنّ كلّ واحدٍ لو انفرد صحّت دعواه, فإذا تنازعوا تساووا في الدّعوى كالأحرار المسلمين فلا بدّ من مرجّحٍ, فإن كان لأحدهما بيّنة فهو ابنه, وإن أقاما بيّنتين تعارضتا وسقطتا ولا يمكن استعمالهما هاهنا. فإذا لم تكن لأحدهما بيّنة أو كانت لهما بيّنتان وتعارضتا وسقطتا فإنّه يعرض على القافة مع المدّعيين فيلحق بمن ألحقته به منهما, لما روت عائشة رضي الله عنها: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوماً مسروراً تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أنّ مجزّزاً المدلجيّ دخل عليّ فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطّيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال: إنّ هذه الأقدام بعضها من بعضٍ», فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سرّ به النّبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه. هذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة, وهو قول أنسٍ وعطاء ويزيد بن عبد الملك والأوزاعيّ واللّيث وأبي ثورٍ. فإن ألحقته القافة بأحدهما لحق به وإن ألحقته بهما فعند الشّافعيّة سقط قولهما ولا يلحق بهما ويترك حتّى يبلغ فإذا بلغ أمر بالانتساب إلى من يميل طبعه إليه فمن انتسب إليه منهما لحق به ، لما ورد أنّ رجلين ادّعيا رجلاً لا يدرى أيهما أبوه فقال: عمر اتّبع أيّهما شئت, ولأنّ طبع الولد يميل إلى والده ويجد به ما لا يجد بغيره. وقال الحنابلة: يلحق بهما وكان ابنهما يرثهما ميراث ابنٍ ويرثانه جميعاً ميراث أب واحدٍ وهذا يروى عن عمر وعليٍّ رضي الله تعالى عنهما وهو قول أبي ثورٍ وذلك لما روي عن سليمان بن يسارٍ عن عمر في امرأةٍ وطئها رجلان في طهرٍ فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعاً فجعله بينهما, وعن الشّعبيّ قال: وعلي يقول: هو ابنها وهما أبواه يرثهما ويرثانه. وقد نصّ أحمد على أنّه إن ادّعاه أكثر من اثنين فألحقته بهم القافة أنّه يلحق بالثّلاثة, وقال عبد اللّه بن حامدٍ: لا يلحق بأكثر من اثنين, وقال القاضي لا يلحق بأكثر من ثلاثةٍ لأنّ المعنى الّذي لأجله لحق باثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه, وإذا جاز أن يلحق من اثنين جاز أن يلحق من أكثر من ذلك. وقال الحنفيّة: لو ادّعى رجلان أنّ اللّقيط ابنهما ولا بيّنة لهما فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمّياً فالمسلم أولى لأنّه أنفع للّقيط وكذلك إذا كان أحدهما حراً والآخر عبداً فالحر أولى لأنّه أنفع له. وإن كانا مسلمين حرّين فإن وصف أحدهما علامةً في جسده فالواصف أولى به لأنّ الدّعوتين متى تعارضتا يجب العمل بالرّاجح منهما وقد ترجّح أحدهما بالعلامة لأنّه إذا وصف العلامة ولم يصف الآخر دلّ على أنّ يده عليه سابقة فلا بدّ لزوالها من دليلٍ. والدّليل على جواز العمل بالعلامة قوله تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}, حكى اللّه تعالى عن الحكم بالعلامة عن الأمم السّالفة ولم يغيّر عليهم والحكيم إذا حكى عن منكر غيره فصار الحكم بالعلامة شريعةً لنا مبتدأةً وإن لم يصف أحدهما علامةً فإنّه يحكم بكونه ابناً لهما إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر فإن أقام أحدهما البيّنة فهو أولى به وإن أقاما جميعاً البيّنة يحكم بكونه ابناً لهما لأنّه ليس أحدهما بأولى من الآخر وقد روى عن سيّدنا عمر في مثل هذا أنّه قال: إنّه ابنهما يرثهما ويرثانه, فإن ادّعاه أكثر من رجلين فأقام البيّنة روي عن أبي حنيفة أنّه تسمع من خمسةٍ وقال أبو يوسف من اثنين ولا تسمع من أكثر من ذلك وقال محمّد تسمع من ثلاثةٍ ولا تسمع من أكثر من ذلك. 13 - وإن ادّعى اللّقيط امرأةً وقالت: إنّه ابني فإن كان لها زوج فلا تقبل دعواها إلا ببيّنة لأنّ في ادّعائها بنوّته تحميل النّسب على الغير وهو الزّوج وفي ذلك ضرر عليه فلا يقبل قولها فيما يلحق الضّرر به فإن أقامت البيّنة صحّت دعوتها ولحق بها اللّقيط ولحق زوجها إن أمكن العلوق منه ولا ينتفي عنه إلا بلعان. قال الشّافعيّة: هذا إذا قيّدت البيّنة أنّها ولدته على فراشه فإن لم تتعرّض للفراش ففي ثبوت نسبه من الزّوج وجهان: قال النّووي: الأصح المنع, وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة وهو أحد الأقوال عند الشّافعيّة ورواية عن الإمام أحمد وإن كانت المرأة خليّةً من الزّوج وادّعت أنّ اللّقيط ابنها ففي الأصحّ عند الشّافعيّة لا يلحقها إلا ببيّنة لإمكانها إقامة البيّنة بالولادة من طريق المشاهدة. ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة وهو رواية عن الإمام أحمد أنّه يلحقها لأنّها أحد الأبوين فصارت كالرّجل. وروي عن الإمام أحمد رواية ثالثة نقلها الكوسج عنه في امرأةٍ ادّعت ولداً قال: إن كان لها إخوة أو نسب معروف لا تصدّق إلا ببيّنة, وإن لم يكن لها دافع لم يحلّ بينها وبينه لأنّه إذا كان لها أهل ونسب معروف لم تخف ولادتها عليهم ويتضرّرون بإلحاق النّسب بها لما فيه من تعييرهم بولادتها من غير زوجها, وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل, ويحتمل أن لا يثبت النّسب بدعواها بحال. 14 - وإن ادّعته امرأتان وأقامت إحداهما البيّنة فهي أولى به, وإن أقامتا بيّنتين فهو ابنهما عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف لا يكون لواحدة منهما. وعن محمّدٍ روايتان: في رواية أبي حفصٍ يجعل ابنهما وفي رواية أبي سليمان لا يجعل ابن واحدةٍ منهما. وقال الشّافعيّة: لو تنازعت امرأتان لقيطاً وأقامتا بيّنتين تعارضتا عرض معهما على القائف فلو ألحقه بإحداهما لحقها ولحق زوجها, فإن لم يكن بيّنة لم يعرض على القائف لأنّ استلحاق المرأة إنّما يصح مع البيّنة والحكم كذلك عند الحنابلة: إذ أنّهم قالوا: لا يلتحق الولد بأكثر من أمٍّ واحدةٍ لأنّه يستحيل أن يكون من أمّين فإن ألحقته القافة بأكثر من أمٍّ سقط قولها ولم يلحق بواحدة منهما لتبين خطأ القافة وليست إحداهما أولى من الأخرى.
15 - اتّفق الفقهاء على أنّ نفقة اللّقيط تكون في ماله إن وجد معه مال من دراهم وغيرها كذهب وحليٍّ وثيابٍ ملفوفةٍ عليه ومفروشةٍ تحته ودابّةٍ مشدودةٍ في وسطه, أو كان مستحقاً في مالٍ عامٍّ كالأموال الموقوفة على اللقطاء أو الموصى بها لهم. فإن لم يكن له مال خاص ولم توجد أموال موقوفة على اللقطاء أو موصى لهم بها فإنّ نفقته تكون في بيت المال لقول عمر في حديث أبي جميلة: اذهب فهو حر ولك ولاؤُه وعلينا نفقته وفي روايةٍ من بيت المال, ولأنّ بيت المال وارثه وماله مصروف إليه فتكون نفقته عليه, وهذا ما ذهب إليه الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو الأظهر عند الشّافعيّة, ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة: لا ينفق عليه من بيت المال وإنّما يقترض عليه من بيت المال أو غيره لجواز أن يظهر له مال. 16 - فإن لم يكن في بيت المال شيء أو كان لكن هناك ما هو أهم من ذلك كسدّ ثغرٍ يعظم ضرره لو ترك أو حالت الظّلمة دونه فللفقهاء في ذلك تفصيل بيانه ما يلي: قال الحنفيّة: إذا لم يكن في بيت المال مال وأبى الملتقط أن يتبرّع بالإنفاق فتمام النّظر بالأمر بالإنفاق عليه لأنّه لا يبقى بدون النّفقة عادةً وللقاضي عليه ولاية الإلزام لأنّه ولي كلّ من عجز عن التّصرف بنفسه يثبت ولايته بحقّ الدّين فيعتبر أمره في إلزام الدّين عليه, قال السّرخسي: وقد قال بعض مشايخنا: مجرّد أمر القاضي بالإنفاق عليه يكفي ولا يشترط أن يكون ديناً عليه ولأنّ أمر القاضي نافذ عليه كأمره بنفسه أن لو كان من أهله, ولو أمر غيره بالإنفاق عليه كان ما ينفق ديناً عليه - أي على اللّقيط - فكذلك إذا أمر القاضي به, والأصح أن يأمره على أن يكون ديناً عليه لأنّ مطلقه يحتمل أن يكون للحثّ والتّرغيب في تمام ما شرع فيه من التّبرع فإنّما يزول هذا الاحتمال إذا اشترط أن يكون ديناً له عليه فلهذا قيّد الأمر به فإذا ادّعى بعد بلوغ اللّقيط أنّه أنفق عليه كذا وصدّقه اللّقيط في ذلك رجع عليه به وإن كذّبه فالقول قول اللّقيط وعلى المدّعي البيّنة لأنّه يدّعي لنفسه ديناً في ذمّته وهو ليس بأمين في ذلك وإنّما يكون أميناً فيما ينفي به الضّمان عن نفسه فلهذا كان عليه إثبات ما يدّعيه بالبيّنة. وقال المالكيّة: إذا لم يوجد مع اللّقيط مال ولم يكن في بيت المال شيء فتكون نفقته على الملتقط وجوباً لأنّه بالتقاطه ألزم نفسه ذلك ويستمر الإنفاق على الذّكر حتّى يبلغ قادراً على الكسب وعلى الأنثى إلى أن تتزوّج ويدخل الزّوج بها بعد إطاقتها, ولا رجوع للملتقط بما أنفق لأنّه ألزم نفسه بذلك بالالتقاط. لكن لو أنفق الملتقط وكان للّقيط مال يعلم به الملتقط حال إنفاقه فإنّه يرجع عليه إذا حلف أنّه أنفق ليرجع. وإن كان اللّقيط قد طرحه أبوه عمداً وثبت ذلك ببيّنة أو إقرارٍ فإنّ الملتقط يرجع بما أنفقه على أبيه إن كان الأب موسراً حين الإنفاق وأن يحلف المنفق أنّه أنفق ليرجع لا حسبةً, فإن كان اللّقيط قد ضلّ عن أبيه أو هرب ولم يطرحه أبوه فلا يرجع المنفق على الأب الموسر لأنّ الإنفاق حينئذٍ محمول على التّبرع. وقال الشّافعيّة: إن تعذّر الإنفاق من بيت المال اقترض له الإمام من المسلمين في ذمّة اللّقيط كالمضطرّ إلى الطّعام, فإن تعذّر الاقتراض قام المسلمون بكفايته قرضاً حتّى يثبت لهم الرجوع بما أنفقوا على اللّقيط ويقسّطها الإمام على الأغنياء منهم ويجعل نفسه منهم, فإن تعذّر استيعابهم لكثرتهم قسّطها على من رآه منهم باجتهاده, فإن استووا في اجتهاده تخيّر, فإن ظهر له سيّد رجعوا عليه, وإن كان حراً وظهر له مال أو اكتسب مالاً فالرجوع عليه, فإن لم يظهر له مال ولا قريب ولا كسب ولا للعبد سيّد فالرجوع على بيت المال من سهم الفقراء أو الغارمين بحسب ما يراه الإمام, وفي قولٍ يقوم المسلمون بكفايته نفقةً لا قرضاً لأنّه محتاج عاجز, وإن قام بها بعضهم اندفع الحرج عن الباقين. وقال الحنابلة: إن تعذّر الإنفاق عليه من بيت المال فعلى من علم حاله من المسلمين الإنفاق عليه لقول اللّه تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}, ولأنّ في ترك الإنفاق عليه هلاكه وحفظه عن ذلك واجب كإنقاذه من الغرق وهذا فرض كفايةٍ إذا قام به قوم سقط عن الباقين فإن تركه الكل أثموا, ومن أنفق عليه متبرّعاً فلا شيء له سواء كان الملتقط أو غيره, وإن لم يتبرّع بالإنفاق عليه فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسباً بالرجوع عليه إذا أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم لزم اللّقيط ذلك إذا كانت النّفقة قصداً بالمعروف, وإن أنفق بغير أمر الحاكم محتسباً الرجوع عليه فقال أحمد: تؤدّى النّفقة من بيت المال, لأنّه أدّى ما وجب على غيره فكان له الرجوع على من كان الوجوب عليه كالضّامن إذا قضى عن المضمون عنه, وقال شريح والنّخعي: يرجع عليه بالنّفقة إذا أشهد عليه, وقال عمر بن عبد العزيز يحلف ما أنفق محتسباً.
17 - إن جنى اللّقيط الجناية الّتي تتحمّلها العاقلة كالخطأ فأرشها على بيت المال لأنّ ميراثه ونفقته في بيت المال فكان عقله فيه كعصباته, وإن كانت الجناية عمداً فحكمه فيه حكم غير اللّقيط: فإن كان بالغاً عاقلاً اقتصّ منه, وإلا فالدّية في ماله إن كان له مال, وإن لم يكن له مال ففي ذمّته حتّى يوسر كسائر الديون. 18 - وإن جنى أحد على اللّقيط فإن قُتل خطأً ففيه الدّية وتكون لبيت المال لأنّها من ميراثه كسائر ماله وهذا إن لم يكن وارث, فإن كان له زوجة مثلاً فلها الربع والباقي لبيت المال. وإن قتله أحد عمداً عدواناً فوليه الإمام لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «السلطان ولي من لا وليّ له», وعلى ذلك فللإمام إن شاء أن يقتصّ من القاتل وإن شاء أخذ الدّية حسب الأصلح لأنّه حر معصوم, وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة والحنابلة وأبو حنيفة ومحمّد, وقال أبو يوسف عليه الدّية في ماله ولا يقتل به, قال أبو يوسف لأنّا نعلم أنّ للّقيط ولياً في دار الإسلام من عصبةٍ أو غير ذلك وإن بَعُد إلا أنّا لا نعرفه بعينه وحق استيفاء القصاص يكون إلى الوليّ كما قال اللّه تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} فيصير ذلك شبهةً مانعةً للإمام من استيفاء القصاص وإذا تعذّر استيفاء القصاص بشبهة وجبت الدّية في مال القاتل. وإن قطع طرف اللّقيط عمداً انتظر بلوغه مع رشده ليقتصّ أو يعفو ويحبس الجاني إلى أوان البلوغ والرشد, وإذا كان اللّقيط فقيراً فللإمام العفو على مالٍ لأنّه أحظ للّقيط لينفق عليه منه.
1 - اللكنة في اللغة: العِي, وهو: ثقل اللّسان, ولَكَنَ لكناً: صار كذلك فالذّكر ألكن, والأنثى لكناء, ويقال: الألكن الّذي لا يفصح بالعربيّة. ويؤخذ تعريف اللكنة عند الفقهاء من تعريفهم للألكن, قال الزرقاني: الألكن هو من لا يستطيع إخراج بعض الحروف من مخارجها سواء كان لا ينطق بالحرف البتّة أو ينطق به مغيّراً أو بزيادته أو تكراره, والمالكيّة هم أكثر الفقهاء استعمالاً لهذا اللّفظ.
أ - اللثغة: 2 - اللُثْغة - بضمّ اللام وسكون الثّاء - تحرك اللّسان من السّين إلى الثّاء, ومن الرّاء إلى الغين ونحوه, وعرّفها البعض بأنّها: حبسة في اللّسان حتّى تغيّر الحروف. واللكنة أعم من اللثغة لأنّها تشمل اللثغة وغيرها. ب - التّمتمة: 3 - التّمتمة هي تكرار التّاء, والتّمتام الّذي يكرّر التّاء. واللكنة أعم من التّمتمة. ج - الفأفأة: 4 - الفأفأة هي تكرار الفاء, والفأفاء الّذي يكرّر الفاء واللكنة أعم من الفأفأة.
5 - ذهب الشّافعيّة في الجديد وأكثر الحنابلة إلى أنّه لا يصح الاقتداء بألكن يترك حرفاً من حروف الفاتحة أو يبدّله بغيره, وبهذا يقول الحنفيّة على المذهب إلا أنّهم لا يحصرون الحكم في الإخلال بحرف من الفاتحة أو إبداله بغيره, بل يقولون بعدم جواز إمامة من لا يتكلّم ببعض الحروف, سواء كانت من الفاتحة أو غيرها. ويرى هؤُلاء الفقهاء أنّ الألكن إن تمكّن من إصلاح لسانه وترك الإصلاح والتّصحيح فصلاته في نفسه باطلة, فلا يجوز الاقتداء به, وإن لم يتمكّن من الإصلاح والتّصحيح: بأن كان لسانه لا يطاوعه, أو كان الوقت ضيّقاً ولم يتمكّن قبل ذلك فصلاته في نفسه صحيحة, فإن اقتدى به من هو في مثل حاله صحّ اقتداؤُه لأنّه مثله فصلاته صحيحة. وقد صرّح الشّافعيّة بأنّه لو كانت اللثغة يسيرةً, بأن لم تمنع أصل مخرج الحرف وإن كان غير صافٍ لم تؤثّر, وقواعد الحنفيّة لا تأبى هذا الحكم, فقد سئل الخير الرّملي الحنفي عما إذا كانت اللثغة يسيرةً ؟ فأجاب بأنّه لم يرها لأئمّتنا, وصرّح بها الشّافعيّة بأنّه لو كانت يسيرةً بأن يأتي بالحرف غير صافٍ لم تؤثّر, قال: وقواعدنا لا تأباه. وفي الفتاوى الهنديّة: وأمّا الّذي لا يقدر على إخراج الحروف إلا بالجهد ولم يكن له تمتمة أو فأفأة, فإذا أخرج الحروف أخرجها على الصّحّة لا يكره أن يكون إماماً لغيره. ويرى المالكيّة في المذهب وبعض الحنفيّة وأبو ثورٍ وعطاء وقتادة صحّة الاقتداء بالألكن, وهذا ما اختاره المزني إلا أنّه قيّد صحّة الاقتداء به بأن لم يطاوعه لسانه, أو طاوعه ولم يمض زمن يمكن فيه التّعلم, وإلا فلا يصح الاقتداء به. جاء في الشّرح الصّغير: جاز إمامة ألكن, وقال الحطّاب: ظاهر كلام المصنّف - خليل - أنّ إمامته جائزة من غير كراهةٍ, ويقول ابن رشدٍ بكراهة الائتمام بالألكن, إلا أن لا يوجد من لا يرضى سواه. قال الطّحطاوي من الحنفيّة نقلاً عن الخانيّة: ذكر الشّيخ أبو بكرٍ محمّد بن الفضل: تصح إمامته لغيره لأنّ ما يقوله صار لغةً له. ويرى الشّافعيّة في القديم صحّة الاقتداء بالألكن في السّريّة دون الجهريّة, بناءً على أنّ المأموم لا يقرأ في الجهريّة, بل يتحمّل الإمام عنه فيها. وظاهر كلام ابن البنّا من الحنابلة صحّة إمامة الألثغ - الألكن - مع الكراهة. هذا حكم الاقتداء بالألكن الّذي يترك حرفاً من الحروف, أو يبدّله بغيره, أو لا يفصح ببعض الحروف. 6 - أما إذا كانت اللكنة متمثّلةً في عدم القدرة على التّلفظ بحرف من الحروف إلا بتكرار, فقد اختلف الفقهاء في حكم الاقتداء بصاحب هذه اللكنة. فقال الشّافعيّة والحنابلة: تكره إمامة التّمتام والفأفاء وتصح الصّلاة خلفهما, لأنّهما يأتيان بالحروف على الكمال, ويزيدان زيادةً هما مغلوبان عليها فعفي عنها, ويكره تقديمهما لهذه الزّيادة. وصرّح الشّافعيّة بأنّه لا فرق بين أن يكون هذا التّكرار في الفاتحة أو غيرها. ويرى الحنفيّة أنّ من لا يقدر على التّلفظ بحرف من الحروف إلا بتكرار فيتحتّم عليه بذل الجهد لإصلاح لسانه وتصحيحه, فإن لم يبذل لا يؤُم إلا مثله, ولا تصح صلاته إن أمكنه الاقتداء بمن يحسنه أو ترك جهده أو وجد قدر الفرض خالياً عن ذلك. وعند المالكيّة جاز إمامة الألكن لسالم ولمثله, وهو من لا يستطيع إخراج بعض الحروف من مخارجها, سواء كان لا ينطق بالحرف ألبتّة, أو ينطق به مغيّراً ولو بزيادته أو تكراره. وللتّفصيل: (ر: قراءة ف 9).
1 - اللّمز في اللغة: العيب في السّرّ, وأصله الإشارة بالعين والرّأس والشّفة مع كلامٍ خفيٍّ. وقيل: هو العيب في الوجه والوقوع في النّاس, يقال: لمزه يلمزه من بابي ضرب وقتل: عابه, وقال اللّحياني: الهمّاز واللّمّاز: النّمّام, ومنه قوله تعالى في التّنزيل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} ولا يخرج معناه الاصطلاحي عن معناه اللغويّ.
أ - الهمز: 2 - من معاني الهمز في اللغة: الغمز والاغتياب, يقال: همزه همزاً: غمزه, ويقال: همزه: اغتابه وغضّ منه, ومنه قوله تعالى في التّنزيل: {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ}. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. قال الطّبريّ: اللّمز باليد والعين واللّسان والإشارة, والهمز لا يكون إلا باللّسان فاللّمز أعم من الهمز. ب - الغمز: 3 - من معاني الغمز في اللغة: الإشارة بالعين أو الجفن أو الحاجب, يقال غمزه غمزاً - من باب ضرب - أشار إليه بعين أو حاجبٍ, ومنه قوله تعالى في التّنزيل: {وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. والصّلة بين اللّمز والغمز: أنّ اللّمز أعم من الغمز. ج - الغيبة: 4 - الغِيبة - بكسر الغين - في اللغة اسم مأخوذ من اغتابه اغتياباً: إذا ذكره بما يكره من العيوب وهو حق, فإن كان ذلك باطلاً فهو الغيبة في بهتٍ. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ. والغيبة أعم من اللّمز لأنّ اللّمز من أقسام الغيبة.
5 - اللّمز من المحرّمات وكبائر الذنوب لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. قال قتادة: وذلك أنّ عبد الرّحمن بن عوفٍ تصدّق بنصف ماله وكان له ثمانية آلافٍ فتصدّق منها بأربعة آلافٍ فقال قوم: ما أعظم رياءه فأنزل اللّه: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ}. ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ََلا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَََلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَََلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَََلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَََلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} وهذه الآية مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} أي لا يقتل بعضكم بعضاً لأنّ المؤمنين كنفس واحدةٍ فكأنّه بقتل أخيه قاتل نفسه. والمعنى: لا يعب بعضكم بعضاً ، تنبيه على أنّ العاقل لا يعيب نفسه فلا ينبغي أن يعيب غيره, لأنّه كنفسه. وقد أورد ابن حجرٍ الهيتمي اللّمز باعتباره من كبائر الذنوب, ثمّ قال: وغاير بين صفتي: تلمزوا وتنابزوا: {وَََلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَََلا تَنَابَزُوا}, لأنّ الملموز قد لا يقدر في الحال على عيبٍ يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتّى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النّبز فإنّ من لقّب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالاً فوقع التّفاعل ثمّ قال: ومعنى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} أنّ من فعل إحدى الثّلاثة استحق اسم الفسق وهو غاية النّقص بعد أن كان كاملاً بالإيمان ، وضمّ تعالى إلى هذا الوعيد الشّديد في نفس الآية قوله {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} للإشارة إلى عظمة إثم كلّ واحدٍ من تلك الثّلاثة, وقال: وقدّمت السخريّة, لأنّها أبلغ الثّلاثة في الأذيّة لاستدعائها تنقيص المرء في حضرته, ثمّ اللّمز لأنّه العيب بما في الإنسان, وهذا دون الأوّل ثمّ النّبز وهذا نداؤُه بلقبه وهو دون الثّاني إذ لا يلزم مطابقة معناه للقبه فقد يلقّب الحسن بالقبيح وعكسه.
1 - اللّمس لغةً: الجس والإدراك بظاهر البشرة كالمسّ, ويكنى به وبالملامسة عن الجماع, وقرئ: {لاَمَسْتُمُ} و {لَمَسْتُمُ النِّسَاء} حملاً على المسّ وعلى الجماع, وقيل: اللّمس: المس باليد. واللّمس اصطلاحاً هو: ملاقاة جسمٍ لجسم لطلب معنىً فيه كحرارة أو برودة أو صلابةٍ أو رخاوةٍ أو علم حقيقةٍ, كأن يلمس ليعلم هل هو آدمي أو لا.
أ - المس: 2 - من معاني المسّ في اللغة: اللّمس والجنون, ويكنى به عن النّكاح. والمس في الاصطلاح: ملاقاة جسمٍ لآخر على أيّ وجهٍ كان. والفرق بين اللّمس والمسّ: أنّ المسّ التقاء الجسمين, سواء كان لقصد معنىً أو لا, واللّمس هو المس لطلب معنىً. فاللّمس أخص من المسّ. ب - المباشرة: 3 - المباشرة في اللغة: الإفضاء بالبشرتين, يقال: باشر الرّجل زوجته: تمتّع ببشرتها, وباشر الأمر تولاه ببشرته وهي يده. قال ابن منظورٍ: مباشرة المرأة ملامستها, وكنّى بها عن الجماع في قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}. ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ. ويرادف اللّمس المباشرة في بعض إطلاقاتها.
4 - اختلف الفقهاء في حكم لمس المرأة بالنّسبة لنقض الوضوء: فيرى الحنفيّة وأحمد في روايةٍ أنّ لمس الرّجل المرأة والمرأة الرّجل لا ينقض الوضوء, وروي ذلك عن عليٍّ وابن عبّاسٍ وعطاءٍ وطاوسٍ والحسن ومسروقٍ. ثمّ اختلف الحنفيّة في المباشرة الفاحشة وهو أن يباشر الرّجل المرأة بشهوة وينتشر لها وليس بينهما ثوب ولم ير بللاً, فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنّه يكون حدثاً استحساناً, والقياس أن لا يكون حدثاً وهو قول محمّدٍ, وهل تشترط ملاقاة الفرجين وهي مماسّتهما ؟ على قولهما لا يشترط ذلك في ظاهر الرّواية وشرطه في النّوادر, وذكر الكرخي ملاقاة الفرجين أيضاً. وقال المالكيّة: ينتقض الوضوء بلمس المتوضّئ البالغ لشخص يلتذ به عادةً من ذكرٍ أو أنثى ولو كان الملموس غير بالغٍ سواء أكان اللّمس لزوجته أو أجنبيّةٍ أو محرماً أم كان اللّمس لظفر أو شعرٍ أم من فوق حائلٍ كثوب, وسواء أكان الحائل خفيفاً يحس اللامس معه بطراوة البدن أم كان كثيفاً, وسواء أكان اللّمس بين الرّجال أم بين النّساء, فاللّمس بلذّة ناقض. والنّقض باللّمس مشروط بشروط ثلاثةٍ: أن يكون اللامس بالغاً, وأن يكون الملموس ممّن يشتهى عادةً, وأن يقصد اللامس اللّذّة أو يجدها. ولا ينقض الوضوء بلذّة من نظرٍ أو فكرٍ, ولو حدث إنعاظ ما لم يمذ بالفعل, ولا بلمس صغيرةٍ لا تشتهى أو بهيمةٍ أو رجلٍ ملتحٍ, إذ الشّأن عدم التّلذذ به عادةً إذا كملت لحيته. وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا التقت بشرتا رجلٍ وامرأةٍ أجنبيّةٍ تشتهى, انتقض وضوء اللامس منهما, سواء كان اللامس الرّجل أو المرأة, وسواء كان اللّمس بشهوة أم لا, تعقبه لذّة أم لا, وسواء قصد ذلك أم حصل سهواً أو اتّفاقاً, وسواء استدام اللّمس أم فارق بمجرّد التقاء البشرتين, وسواء لمس بعضو من أعضاء الطّهارة أو بغيره, وسواء كان الملموس أو الملموس به صحيحاً أو أشلّ, زائداً أو أصلياً, فكل ذلك ينقض الوضوء, وهل ينقض وضوء الملموس ؟ فيه قولان مشهوران, وذكر الماورديّ والقاضي حسين والمتولّي وغيرهم أنّ القولين مبنيّان على القراءتين, فمن قرأ: {لَمَسْتُمُ} لم ينقض الملموس لأنّه لم يلمس, ومن قرأ: {لاَمَسْتُمُ} نقضه لأنّها مفاعلة, واختلف في الأصحّ من القولين فصحّح الروياني والشّاشي عدم الانتقاض, وصحّح الأكثرون الانتقاض. والمشهور من مذهب أحمد أنّ لمس النّساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوةٍ, وهذا قول علقمة وأبي عبيدة والنّخعيّ والحكم وحمّادٍ والثّوريّ وإسحاق والشّعبيّ. ولا ينقض مس الرّجل الطّفلة ولا المرأة الطّفل, أي من دون سبعٍ. ولا يختص اللّمس النّاقض باليد بل أي شيءٍ منه لاقى شيئاً من بشرتها مع الشّهوة انتقض وضوءه به سواء كان عضواً أصلياً أو زائداً. ولا ينقض مس شعر المرأة ولا ظفرها ولا سنها ولا ينقض لمسها لشعره ولا سنّه ولا ظفره. 5 - لمس الفرج لا ينتقض به الوضوء عند الحنفيّة وينتقض به عند الجمهور, وللتّفصيل: (ر: فرج ف 40). 6 - يحرم على المحدث والحائض والنفساء والجنب مس المصحف لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إََِلا الْمُطَهَّرُونَ}, ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يمس القرآن إلا طاهر». وللتّفصيل: (ر: جنابة ف 10 وحدث ف 26, ومصحف).
7 - يرى جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - أنّ الصّائم إذا تعمّد إنزال المنيّ باللّمس والتّقبيل ونحوهما فإنّه يوجب القضاء دون الكفّارة. وعند المالكيّة يوجب القضاء والكفّارة عند حصول الإنزال. والتّفصيل في: (صوم ف 41).
8 - إذا لمس المحرم المرأة بشهوة أو قبّل أو باشر بغير جماعٍ فيجب عليه الدّم, سواء أنزل منياً أم لم ينزل, ولا يفسد حجه اتّفاقاً بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة. إلا أنّ الحنابلة قالوا إن أنزل وجب عليه بدنة. وقال المالكيّة: إن أنزل منياً فسد حجه, وعليه ما على المجامع, وإن لم ينزل فعليه بدنة. وللتّفصيل: (ر: إحرام ف 176).
9 - ذهب الفقهاء في الجملة إلى عدم جواز لمس الرّجل شيئاً من جسد المرأة الأجنبيّة الحيّة, إلا أنّهم أجازوا للطّبيب المسلم إن لم توجد طبيبة أن يداوي المريضة الأجنبيّة المسلمة وينظر منها ويلمس ما تلجئ الحاجة إلى نظره ولمسه, ويجيزون للطّبيبة أن تنظر وتلمس من المريض ما تدعو الحاجة الملجئة إلى نظره ولمسه إن لم يوجد طبيب يقوم بمداواة المريض. وللتّفصيل: (ر: عورة ف 15, 18).
10 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة أنّه يحصل العلم بحقيقة المبيع باللّمس. وذهب الشّافعيّة إلى أنّ كلّ عقدٍ يشترط فيه الرؤية لا يصح بدونها, ويؤخذ من عباراتهم أنّهم لا يعتبرون اللّمس وسيلةً لحصول العلم بحقيقة المبيع.
11 - اختلف الفقهاء فيما لو لمس الرّجل امرأةً بشهوة هل يحل له الزّواج بأصولها وفروعها ؟ يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في الجملة أنّ لمس أجنبيّةٍ سواء كان لشهوة أو لغيرها لا ينشر حرمة المصاهرة. وذهب الحنفيّة إلى ثبوت حرمة المصاهرة باللّمس والتّقبيل والنّظر إلى الفرج بشهوة كما تثبت بالوطء. ولا فرق عند الحنفيّة في ثبوت الحرمة باللّمس بين كونه عامداً أو ناسياً أو مكرهاً أو مخطئاً.
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى صحّة الرّجعة باللّمس بشهوة وسائر مقدّمات الجماع, إلا أنّ المالكيّة يشترطون لصحّة الرّجعة أن ينوي الزّوج باللّمس الرّجعة. ويرى الشّافعيّة والحنابلة في المذهب عدم صحّة الرّجعة باللّمس وبغيره من مقدّمات الجماع.
13 - ذهب الحنفيّة وأكثر المالكيّة وأحمد في إحدى الرّوايتين عنه إلى حرمة دواعي الجماع من تقبيلٍ أو لمسٍ أو مباشرةٍ فيما دون الفرج قبل التّكفير. ويرى الشّافعيّة في الأظهر وبعض المالكيّة وأحمد في روايةٍ إباحة دواعي الوطء فلا يحرم عندهم لمس الزّوج زوجته المظاهر منها ولا تقبيلها ولا مباشرتها فيما دون الفرج. وللتّفصيل: (ر: ظهار ف 22).
1 - من معاني اللّمم لغةً: الجمع, وصغار الذنوب, ومقاربة الذّنب من غير إيقاع فعلٍ. واللّمم في الاصطلاح: ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنّظرة والمضاجعة, قاله ابن مسعودٍ وأبو سعيدٍ الخدري وحذيفة ومسروق. وقال أبو هريرة وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم والشّعبي: اللّمم كل ما دون الزّنى, وقال القرطبي: اللّمم هي الصّغائر الّتي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه اللّه وحفظه.
أ - الكبائر: 2 - الكبائر جمع كبيرةٍ وهي في اللغة: الإثم. وفي الاصطلاح عرّفها الجرجاني بأنّها: ما كان حراماً محضاً شرع عليها عقوبة محضة بنصّ قاطعٍ في الدنيا والآخرة. وقيل: إنّها ما يترتّب عليها حد أو توعّد عليها بالنّار أو اللّعنة أو الغضب, قال شارح العقيدة الطّحاويّة: وهذا أمثل الأقوال. والكبائر ضد اللّمم. ب - الصّغائر: 3 - الصّغائر لغةً: من صغر الشّيء فهو صغير وجمعه صغار, والصّغيرة صفة, وجمعها صغار أيضاً, ولا تجمع على صغائر إلا في الذنوب والآثام. وأمّا في الاصطلاح فقد عرّفها البعض بأنّها: كل ذنبٍ لم يختم بلعنة أو غضبٍ أو نارٍ. وقيل: الصّغيرة ما دون الحدّين: حدّ الدنيا وحدّ الآخرة. والصّلة بين الصّغائر واللّمم التّساوي. ج - المعصية: 4 - المعصية أو العصيان في اللغة: الخروج عن الطّاعة. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي لهذا اللّفظ عن معناه اللغويّ. والمعصية أعم من اللّمم. 5 - اللّمم بمعنى الصّغائر من الذنوب لا يقدح العدالة إلا مع الإصرار, لأنّ التّحرز منها غير ممكنٍ. قال القرافي: الصّغيرة لا تقدح في العدالة ولا توجب فسوقاً إلا أن يصرّ عليه. وقال الغزالي: لا يخلو الإنسان عن غيبةٍ وكذبٍ ونميمةٍ ولعنٍ وسفاهةٍ في غضبٍ فلا ترد شهادته بسببها إلا عند الإصرار. وحد الإصرار كما قال ابن عابدين نقلاً عن ابن نجيمٍ: أن تتكرّر منه الصّغيرة تكراراً يشعر بقلّة المبالاة بدينه, ومقتضاه أنّه غير مقدّرٍ بعدد, بل مفوّض إلى الرّأي والعرف, والظّاهر أنّه لا يكون بمرّتين إصرار. والتّفصيل في: (إصرار ف 2, وكبائر وصغائر ف 4).
1 - اللّهو في اللغة: كل باطلٍ ألهى عن الخير وعمّا يعني. وقال الطرطوشي: أصل اللّهو: التّرويح عن النّفس بما لا تقتضيه الحكمة. وقال القرطبي: وقد يكنى باللّهو عن الجماع, وإنّما سمّي الجماع لهواً لأنّه ملهٍ للقلب. ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن المعنى اللغويّ في الغالب وهو كل ما يتلذّذ به الإنسان فيلهيه ثمّ ينقضي.
اللّعب: 2 - من معاني اللّعب في اللغة: طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به. وفي الاصطلاح قال البركتي: اللّعب هو فعل الصّبيان يعقبه التّعب من غير فائدةٍ. واللّهو أعم من اللّعب.
أ - اللّهو بمعنى اللّعب: 3 - الأصل في هذه المسألة هو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كل شيءٍ يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثاً: رميه عن قوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله», وذلك لأنّه أفاد أنّ كلّ ما تلهّى به الإنسان ممّا لا يفيد في العاجل والآجل فائدةً دينيّةً فهو باطل والاعتراض فيه متعيّن, إلا هذه الأمور الثّلاثة فإنّه وإن فعلها على أنّه يتلهّى بها ويستأنس وينشط فإنّها حق لاتّصالها بما قد يفيد, فإنّ الرّمي بالقوس وتأديب الفرس فيهما عون على القتال, وملاعبته المرأة قد تفضي إلى ما يكون عنه ولد يوحّد اللّه ويعبده, فلهذا كانت هذه الثّلاثة من الحقّ وما عداها من الباطل. قال الخطّابي: في هذا بيان أنّ جميع أنواع اللّهو محظورة, وإنّما استثنى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرّم منها, لأنّ كلّ واحدةٍ منها إذا تأمّلتها وجدتها معينةً على حقٍّ أو ذريعةً إليه, ويدخل في معناها ما كان من المثاقفة بالسّلاح والشّدّ على الأقدام ونحوهما ممّا يرتاض به الإنسان, فيتوقّح بذلك بدنه ويتقوّى به على مجالدة العدوّ. فأمّا سائر ما يتلهّى به البطّالون من أنواع اللّهو كالنّرد والشّطرنج والمزاجلة بالحمام وسائر ضروب اللّعب ممّا لا يستعان به في حقٍّ, ولا يستجم به لدرك واجبٍ فمحظور كله. والتّفاصيل في مصطلح: (لعب ف 3 وما بعدها). ب - اللّهو بمعنى الغناء: 4 - ذهب الفقهاء إلى حرمة الغناء إذا كان بشعر يشبّب فيه بذكر النّساء ووصف محاسنهنّ وذكر الخمور والمحرّمات لأنّه اللّهو والغناء المذموم بالاتّفاق. وأمّا إذا سلم الغناء من الفتنة والملامة فأباحه بعض الفقهاء وكرهه الآخرون وقال جماعة بحرمته. وللتّفصيل: (ر: استماع ف 15 - 22, وغناء ف 5).
5 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الضّرب بآلات اللّهو ذوات الأوتار - كالرّبابة والعود والقانون - وسماعه حرام. قال ابن حجرٍ الهيتمي: الأوتار والمعازف كالطنبور والعود والصّنج - أي ذي الأوتار - والرّباب والجنك والكمنجة والسّنطير والدّرّيج وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللّهو والسّفاهة والفسوق هذه كلها محرّمة بلا خلافٍ. وقال القرطبي: أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها ولم أسمع عن أحدٍ ممّن يعتبر قوله من السّلف وأئمّة الخلف من يبيح ذلك, وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيّج الشّهوات والفساد والمجون, وما كان كذلك لم يشكّ في تحريمه ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه. وللتّفصيل فيما يحل وما يحرم من الملاهي: (ر: معازف, واستماع ف 26 - 30).
1 - اللّواط لغةً: مصدر لاط, يقال: لاط الرّجل ولاَوَط: أي عمل عمل قوم لوطٍ. واصطلاحاً: إيلاج ذكرٍ في دبر ذكرٍ أو أنثى.
الزّنا: 2 - الزّنا في اللغة: الفجور. وفي الاصطلاح عرّفه الفقهاء بتعريفات مختلفةٍ, منها تعريف الحنفيّة للزّنا بالمعنى الأعمّ وهو يشمل ما يوجب الحدّ وما لا يوجبه بأنّه: وطء الرّجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهته. وعرّفه الشّافعيّة بأنّه: إيلاج الذّكر بفرج محرّمٍ لعينه خالٍ عن الشبهة مشتهًى طبعاً. ويتّفق اللّواط والزّنا في أنّ كلاً منهما وطء محرّم, لكن اللّواط وطء في الدبر, والزّنا وطء في القبل.
3 - اتّفق الفقهاء على أنّ اللّواط محرّم لأنّه من أغلظ الفواحش. وقد ذمّه اللّه تعالى في كتابه الكريم وعاب على فعله فقال تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}. وقال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}. وقد ذمّه الرّسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «لعن اللّه من عمل عمل قوم لوطٍ ، ولعن اللّه من عمل عمل قوم لوطٍ ولعن اللّه من عمل عمل قوم لوطٍ».
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ عقوبة اللائط هي عقوبة الزّاني, فيرجم المحصن ويجلد غيره ويغرّب لأنّه زنا بدليل قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً}, وقال تعالى: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ}, وعن أبي موسى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرّجل الرّجل فهما زانيان». 5 - هذا في الجملة, ولجمهور الفقهاء ولمخالفيهم في هذا الحكم تفصيل: فذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يجب الحد لوطء امرأةٍ أجنبيّةٍ في غير قبلها ولا باللّواطة بل يعزّر. وقال أبو يوسف ومحمّد: اللّواط كالزّنا فيحد جلداً إن لم يكن أحصن ورجماً إن أحصن. ومن تكرّر اللّواط منه يقتل على المفتى به عند الحنفيّة. ومن فعل اللّواط في عبده أو أمته أو منكوحته لا يجب عليه الحد باتّفاق الحنفيّة وإنّما يعزّر لارتكابه المحظور. وذهب المالكيّة إلى أنّ من فعل فعل قوم لوطٍ رجم الفاعل والمفعول به, سواء كانا محصنين أو غير محصنين, وإنّما يشترط التّكليف فيهما, ولا يشترط الإسلام ولا الحرّيّة. وأمّا إتيان الرّجل حليلته من زوجةٍ أو أمةٍ فلا حدّ بل يؤدّب. والمذهب عند الشّافعيّة أنّه يجب باللّواط حد الزّنا, وفي قولٍ يقتل الفاعل محصناً كان أو غيره لحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوطٍ فاقتلوا الفاعل والمفعول به». وقيل: إنّ واجبه التّعزير فقط كإتيان البهيمة. وشمل ذلك دبر عبده وهو المذهب. هذا حكم الفاعل. وأمّا المفعول به فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكرهاً فلا حدّ عليه, وإن كان مكلّفاً مختاراً جلد وغرّب محصناً كان أو غيره سواء أكان رجلاً أم امرأةً لأنّ المحلّ لا يتصوّر فيه الإحصان, وقيل ترجم المرأة المحصنة.
وأمّا وطء زوجته أو أمته في دبرها فالمذهب أنّ واجبه التّعزير إن تكرّر منه الفعل, فإن لم يتكرّر فلا تعزير كما ذكره البغوي والروياني, والزّوجة والأمة في التّعزير مثله سواءً. وذهب الحنابلة إلى أنّ حدّ اللّواط الفاعل والمفعول به كزانٍ, لحديث ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما السّابق, ولأنّه فرج مقصود بالاستمتاع فوجب فيه الحد كفرج المرأة, ولا فرق بين أن يكون اللّواط في مملوكه أو أجنبيٍّ لأنّ الذّكر ليس محلاً للوطء, فلا يؤثّر ملكه له, أو في دبر أجنبيّةٍ لأنّه فرج أصلي كالقبل, فإن وطئ زوجته في دبرها أو وطئ مملوكته في دبرها فهو محرّم ولا حدّ فيه لأنّها محل للوطء في الجملة بل يعزّر لارتكاب معصيةٍ.
6 - يثبت اللّواط بالإقرار أو الشّهادة. وأمّا عدد الشهود, فقد قال جمهور الفقهاء ينبغي أن يكون عددهم بعدد شهود الزّنا أي أربعة رجالٍ.
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا قال رجل لرجل: إنّه عمل عمل قوم لوطٍ فإنّ ذلك يعد قذفاً, وعليه حد القذف. والتّفصيل في مصطلح: (قذف ف 11).
1 - اللَّوْث بفتح اللام وسكون الواو في اللغة: القوّة والشّر, واللّوث: الضّعف. واللّوث: شبه الدّلالة على حدثٍ من الأحداث, ولا يكون بيّنةً تامّةً يقال: لم يقم على اتّهام فلانٍ بالجناية إلا لوث. واللّوث: الجراحات والمطالبات بالأحقاد, وهو في الاصطلاح: أمر ينشأ عنه غلبة الظّنّ بصدق المدّعي.
التهمة: 2 - التهمة في اللغة بسكون الهاء وفتحها: الشّك والرّيبة وهي في الأصل من الوهم. والتهمة هي الخصلة من المكروه تظن بالإنسان أو تقال فيه, يقال: وقعت على فلانٍ تهمة: إذا ذكر بخصلة مكروهةٍ. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ.
3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ اللّوث من شروط القسامة والأصل فيه حديث سهل بن أبي حثمة الأنصاريّ رضي الله عنه في قصّة قتل يهود خيبر عبد اللّه بن سهلٍ رضي الله عنه, فقد روى عبد اللّه بن عبد الرّحمن بن سهل بن أبي حثمة عن سهل بن أبي حثمة: «أنّه أخبره عن رجالٍ من كبراء قومه أنّ عبد اللّه بن سهلٍ ومحيّصة خرجا إلى خيبر من جهدٍ أصابهم, فأتى محيّصة فأخبر أنّ عبد اللّه بن سهلٍ قد قتل وطرح في عينٍ أو فقيرٍ, فأتى يهود فقال: أنتم واللّه قتلتموه, قالوا: واللّه ما قتلناه, ثمّ أقبل حتّى قدم على قومه فذكر لهم ذلك ثمّ أقبل هو وأخوه حُويّصة وهو أكبر منه وعبد الرّحمن بن سهلٍ, فذهب محيّصة ليتكلّم وهو الّذي كان بخيبر, فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمحيّصة: كبّر كبّر - يريد السّنّ - فتكلّم حويّصة ثمّ تكلّم محيّصة فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إمّا أن يدوا صاحبكم وإمّا أن يؤذنوا بحرب ، فكتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك ، فكتبوا: إنّا واللّه ما قتلناه ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحويّصة ومحيّصة وعبد الرّحمن: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ قالوا: لا ، قال: فتحلف لكم يهود ؟ قالوا: ليسوا بمسلمين ، فوداه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من عنده ، فبعث إليهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مائة ناقةٍ حتّى أدخلت عليهم الدّار ، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء». 4 - ولكنّ اللّوث له صور اختلف الفقهاء في بعضها: فقال الشّافعيّة: اللّوث قرينة تثير الظّنّ وتوقع في القلب صدق المدّعي وله طرق منها: الأوّل: أن يوجد قتيل أو بعضه الّذي يحقّق موته كرأسه في قبيلةٍ أو في حصنٍ, أو في قريةٍ صغيرةٍ, أو في محلّةٍ منفصلةٍ عن البلد الكبير وبين القتيل أو قبيلة القتيل وبين أهلها عداوة ظاهرة تبعث على الانتقام بالقتل, سواء كانت هذه العداوة دينيّةً أو دنيويّةً, بشرط أن لا يعرف له قاتل ولا بيّنة بقتله, وبشرط أن لا يساكنهم غيرهم, وقيل: وبشرط أن لا يخالطهم غيرهم حتّى لو كانت القرية بقارعة الطّريق يطرقها التجّار والمجتازون وغيرهم فلا لوث, لاحتمال أنّ الغير قتله, وذلك إذا كان ذلك الغير لا تعلم صداقته للقتيل, وليس من أهل القتيل. قال النّووي: والصّحيح أنّه لا يشترط أن لا يخالطهم غيرهم, وقال الشّربيني الخطيب: لكن المصنّف - أي النّووي - في شرح مسلمٍ حكى الأوّل - أي اشتراط أن لا يخالطهم غيرهم - عن الشّافعيّ وصوّبه في المهمّات, وقال البلقيني: إنّه المذهب المعتمد. الثّاني: أن تتفرّق جماعة عن قتيلٍ في دارٍ دخلها عليهم ضيفاً أو دخل معهم لحاجة أو في مسجدٍ أو بستانٍ أو طريقٍ أو صحراء, وكذا لو ازدحم قوم على بئرٍ, أو باب الكعبة المشرّفة, أو في الطّواف أو في مضيقٍ ثمّ تفرّقوا عن قتيلٍ, لقوّة الظّنّ أنّهم قتلوه ولا يشترط في هذا أن تكون بينه وبينهم عداوة, لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصوّر اجتماعهم على القتيل. الثّالث: أن يتقابل صفّان لقتال فيقتتلا فينكشفوا عن قتيلٍ من أحدهما طريٍّ - كما قال بعض المتأخّرين - فإن التحم قتال من بعضهم لبعض أو وصل سلاح أحدهما إلى الآخر رمياً أو طعناً أو ضرباً, وكان كل منهما يلزمه ضمان ما أتلفه على الآخر, فهو لوث في حقّ أهل الصّفّ الآخر, لأنّ الظّاهر أنّ أهل صفّه لا يقتلونه سواء أوجد بين الصّفّين أم في صفّ نفسه, أم في صفّ خصمه, وإن لم يلتحم قتال بينهما ولا وصل سلاح أحدهما إلى الآخر فهو لوث في حقّ أهل صفّه أي القتيل, لأنّ الظّاهر أنّهم قتلوه. الرّابع: أن يوجد قتيل في صحراء وعنده رجل معه سلاح متلطّخ بدم أو على ثوبه أو بدنه أثر دمٍ, ما لم تكن قرينة تعارضه كأن وجد بقرب القتيل سبع أو رجل آخر مولٍّ ظهره أو وجد أثر قدمٍ أو ترشيش دمٍ في غير الجهة الّتي فيها صاحب السّلاح فليس بلوث في حقّه, أي صاحب السّلاح. قال النّووي: ولو رأينا من بعدٍ رجلاً يحرّك يده كما يفعل من يضرب بسيف أو سكّينٍ ثمّ وجدنا في الموضع قتيلاً فهو لوث في حقّ ذلك الرّجل. الخامس: أن يشهد عدل بأنّ زيداً قتل فلاناً فهو لوث على المذهب, سواء تقدّمت شهادته على الدّعوى أو تأخّرت لحصول الظّنّ بصدقه. قال الشّربيني الخطيب: إنّما تكون شهادة العدل لوثاً في القتل العمد الموجب للقصاص فإن كان في خطأٍ أو شبه عمدٍ لم يكن لوثاً, بل يحلف معه يميناً واحدةً ويستحق المال, كما صرّح به الماورديّ, وإن كان عمداً لا يوجب قصاصاً كقتل المسلم الذّمّيّ فحكمه حكم قتل الخطأ في أصل المال لا في صفته. ولو شهد جماعة تقبل روايتهم كنساء فإن جاءوا متفرّقين فلوث وكذا لو جاءوا دفعةً على الأصحّ, وفي وجهٍ ليس بلوث وفي التّهذيب: أنّ شهادة امرأتين كشهادة الجمع. وفي الوجيز: أنّ القياس أنّ قول واحدٍ منهم لوث. وأمّا فيمن لا تقبل روايتهم كصبيان أو فسقةٍ أو ذمّيّين فأوجه أصحها: أنّ قولهم لوث. والثّاني: ليس بلوث, والثّالث: لوث من غير الكفّار. ولو قال المجروح: جرحني فلان أو قتلني أو دمي عنده فليس بلوث, لأنّه مدّعٍ. السّادس: قال البغوي: لو وقع في ألسنة العامّ والخاصّ ولهجهم: أنّ فلاناً قتل فلاناً فهو لوث في حقّه. وذهب الحنفيّة إلى أنّه إذا وجد القتيل في محلّةٍ وبه أثر القتل من جراحةٍ أو أثر ضربٍ أو خنقٍ ولا يعلم من قتله استحلف خمسون رجلاً من أهل المحلّة يتخيّرهم الولي يقول كل واحدٍ منهم: باللّه ما قتلته ولا علمت له قاتلاً ولا يشترطون لوجوب القسامة أن يكون هناك علامة القتل على واحدٍ بعينه, أو ظاهر يشهد لمدّعي القتل من عداوةٍ ظاهرةٍ أو شهادة عدلٍ أو جماعةٍ غير عدولٍ أنّ أهل المحلّة قتلوه. ويرى المالكيّة أنّ سبب القسامة هو قتل الحرّ المسلم بلوث, وذكروا خمسة أمثلةٍ للّوث: أوّلها: أن يقول البالغ الحر المسلم الذّكر أو الأنثى: قتلني فلان عمداً أو خطأً فإنّه يقبل قوله في العمد والخطأ, ولو كان المقتول مسخوطاً وادّعى على عدلٍ ولو أعدل وأورع أهل زمانه أنّه قتله. أو تدّعي زوجة على زوجها أنّه قتلها أو ولد يدّعي أنّ أباه ذبحه أو شقّ جوفه فيحلف الأولياء في العمد ويستحقون القصاص, وفي الخطأ يستحقون الدّية ويكون لوثاً بشرط أن يشهد على إقراره بذلك عدلان فأكثر, وبشرط أن يستمرّ المقتول على إقراره, وكان به جرح أو أثر ضربٍ أو سمٍّ. ثانيها: شهادة عدلين على معاينة الضّرب أو الجرح أو أثر الضّرب عمداً كان أو خطأً فيحلف الأولياء ويستحقون القصاص أو الدّية. ثالثها: شهادة عدلٍ واحدٍ على معاينة الجرح أو الضّرب عمداً كان أو خطأً, وحلف الولاة مع الشّاهد المذكور يميناً واحدةً لقد ضربه وهذه اليمين مكمّلة للنّصاب فإنّ ذلك يكون لوثاً وتقسم الولاة معه خمسين يميناً ويستحقون القود في العمد والدّية في الخطأ إن ثبت الموت في جميع الأمثلة السّابقة. رابعها: شهادة عدلٍ على معاينة القتل من غير إقرار المقتول فإنّها تكون لوثاً وشهادة غير العدل لا تكون لوثاً, والمرأتان كالعدل في هذا وفي سائر ما تعتبر فيه شهادة الشّاهد فيه لوثاً. خامسها: إنّ العدل إذا رأى المقتول يتشحّط في دمه والشّخص المتّهم بالقتل قريب من مكان المقتول وعلى المتّهم آثار القتل بأن كانت الآلة بيده وهي ملطّخة بالدّم أو خارجاً من مكان المقتول ولا يوجد فيه غيره, وشهد العدل بذلك فإنّه يكون لوثاً يحلف الأولياء معه خمسين يميناً ويستحقون القود في العمد والدّية في الخطأ. وليس من اللّوث وجود المقتول بقريّة قومٍ أو دارهم, لأنّه لو أخذ بذلك لم يشأ رجل أن يلطّخ قوماً بذلك إلا فعل, ولأنّ الغالب أنّ من قتله لا يدعه في مكانٍ يتّهم هو به. واختلف الحنابلة في اللّوث المشترط في القسامة ورويت عن أحمد في ذلك روايات. والرّواية المعتمدة - وهي المذهب عندهم - أنّ اللّوث هو العداوة الظّاهرة كنحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر, وكما بين القبائل الّتي يطلب بعضها بعضاً بثأر, وما بين الشّرط واللصوص, وكلّ من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظّنّ قتله. وروي عن أحمد أنّ اللّوث ما يغلب على الظّنّ صدق المدّعي وذلك من وجوهٍ: أحدها: العداوة المذكورة. الثّاني: أن يتفرّق جماعة عن قتيلٍ. الثّالث: أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكّين ملطّخ بالدّم, ولا يوجد غيره ممّن يغلب على الظّنّ أنّه قتله. الرّابع: أن يقتتل فئتان فيفترقون عن قتيلٍ من إحداهما فاللّوث على الأخرى. الخامس: أن يشهد جماعة بالقتل ممّن لا يثبت القتل بشهادتهم. واختار هذه الرّواية عن أحمد أبو محمّدٍ الجوزي وابن رزينٍ وتقي الدّين وغيرهم. قال المرداوي: وهو الصّواب. وقال الحنابلة: لا يشترط مع العداوة الظّاهرة أن لا يكون في الموضع الّذي به القتل غير العدوّ, ولا أن يكون بالقتيل أثر القتل كدم في أذنه أو أنفه, وقول القتيل: قتلني فلان ليس بلوث عندهم.
5 - قال المالكيّة: إذا قال البالغ المسلم الحر الذّكر أو الأنثى: قتلني فلان ثمّ قال بل فلان بطل الدّم, وكذلك إذا قال هذا البالغ المسلم الحر: قتلني فلان لا يقبل إلا إذا كان فيه جرج أو أثر الضّرب. وأيضاً فإنّ أولياء المقتول إذا خالفوا قوله, بأن قال: قتلني فلان عمداً فقالوا: بل قتله خطأً أو بالعكس فإنّه لا قسامة لهم وبطل حقهم. ولو اختلف الأولياء, فقال بعضهم: قتله عمداً, وقال بعضهم: لا نعلم هل قتله عمداً أو خطأً, أو قالوا كلهم: قتله عمداً ونكلوا عن القسامة فإنّ الدّم يبطل وهو مذهب المدوّنة, وإن اختلفوا ولم يكونوا في درجةٍ واحدةٍ كبنت وعصبةٍ, بأن ادّعى العصبة العمد والبنت الخطأ فهو هدر ولا قسامة ولا قود ولا دية. وقال الشّافعيّة: قد يعارض القرينة ما يمنع كونها لوثاً, وقد يعارض اللّوث ما يسقط أثره ويبطل الظّنّ الحاصل به, وذلك خمسة أنواعٍ. أحدها: أن يتعذّر إثبات اللّوث فإذا ظهر لوث في حقّ جماعةٍ فللوليّ أن يعيّن واحداً أو أكثر ويدّعي عليه ويقسم, فلو قال: القاتل أحدهم ولا أعرفه فلا قسامة, وله تحليفهم فإن حلفوا إلا واحداً فنكوله يشعر بأنّه القاتل ويكون لوثاً في حقّه, فإذا طلب المدّعي أن يقسم عليه مكّن منه, ولو نكل الجميع ثمّ عيّن الولي أحدهم وقال: قد بان لي أنّه القاتل, وأراد أن يقسم عليه مكّن منه على الأصحّ. الثّاني: قال النّووي: إذا ظهر لوث في أصل القتل دون كونه خطأً أو عمداً فهل يتمكّن الولي من القسامة على أصل القتل ؟ وجهان أصحهما: لا. قال البغوي: لو ادّعى على رجلٍ أنّه قتل أباه ولم يقل عمداً ولا خطأً وشهد له شاهد لم يكن ذلك لوثاً, لأنّه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده, ولو حلف لا يمكن الحكم به لأنّه لا يعلم صفة القتل حتّى يستوفي موجبه. الثّالث: أن ينكر المدّعى عليه اللّوث في حقّه كأن يقول: لم أكن مع القوم المتفرّقين عن القتيل, أو لست أنا الّذي رئي معه السّكّين المتلطّخ بالدّم على رأسه, أو لست أنا المرئيّ من بعيدٍ, فعلى المدّعي البيّنة على الأمارة الّتي ادّعاها, فإن لم يكن بيّنة حلف المدّعى عليه على نفيها وسقط اللّوث وبقي مجرّد الدّعوى. ولو قال: كنت غائباً يوم القتل أو ادّعى على جمعٍ, فقال أحدهم: كنت غائباً يصدّق بيمينه, لأنّ الأصل براءة ذمّته من القتل, فإن أقام المدّعي البيّنة على حضوره يومئذٍ أو إقراره بالحضور يومئذٍ, وأقام المدّعى عليه بيّنةً بغيبته, قال النّووي: ففي الوسيط تتساقطان وفي التّهذيب تقدّم بيّنة الغيبة, لأنّ معها زيادة علمٍ, هذا إذا اتّفقا على أنّه كان حاضراً من قبل, ولو أقسم المدّعي وحكم القاضي بموجب القسامة, ثمّ أقام المدّعى عليه بيّنةً على غيبته يوم القتل أو أقرّ بها المدّعي نقض الحكم واستردّ المال, كما لو قامت بيّنة على أنّ القاتل غيره. الرّابع: تكذيب بعض الورثة بعضهم, فإذا كان للميّت ابنان فقال أحدهما: قتل زيد أبانا وقد ظهر عليه اللّوث, وقال الآخر: لم يقتله زيد بل كان غائباً يوم القتل وإنّما قتله فلان, أو اقتصر على نفي القتل عن زيدٍ, أو قال: برأ أبي من الجراحة أو مات حتف أنفه بطل اللّوث, في الأظهر عند الشّافعيّة, سواء أكان المكذّب عدلاً أم فاسقاً في الأصحّ المنصوص عليه عندهم. الخامس: أن يشهد عدل أو عدلان أنّ زيداً قتل أحد هذين القتيلين فلا تقبل هذه الشّهادة ولا يكون هذا لوثاً, ولو شهد أو شهدا أنّ زيداً قتله أحد هذين ثبت اللّوث في حقّهما على الصّحيح, فإذا عيّن الولي أحدهما وادّعى عليه فله أن يقسم, وقيل: لا لوث. وقال الحنابلة: إن كذّب بعض الأولياء بعضاً فقال أحدهم: قتله هذا وقال آخر: لم يقتله هذا, أو بل قتله هذا لم تثبت القسامة, عدلاً كان المكذّب أو فاسقاً لعدم التّعيين, فإن لم يكذّب أحدهما الآخر ولم يوافقه في الدّعوى, مثل: إن قال أحدهم: قتله هذا, وقال الآخر: لا نعلم قاتله لم تثبت القسامة أيضاً, وكذلك إن كان أحد الوليّين غائباً فادّعى الحاضر دون الغائب, أو ادّعيا جميعاً على واحدٍ ونكل أحدهما عن الأيمان لم يثبت القتل. وإن أقام المدّعى عليه بيّنةً أنّه كان يوم القتل في بلدٍ بعيدٍ من بلد المقتول لا يمكنه مجيئه إليه بطلت الدّعوى.
انظر: تعزير.
1 - اللّون في اللغة: هيئة كالسّواد والحمرة, ولوّنته فتلوّن, والألوان: الضروب, واللّون: النّوع, وفلان متلوّن: إذا كان لا يثبت على خلقٍ واحدٍ. وفي الاصطلاح يستعمل الفقهاء اللّون صفةً للشّيء فيقولون: يشترط في المسلم فيه بيان صفاته فيشترط بيان اللّون في الحيوان والثّياب كالبياض والحمرة والسّواد.
يتعلّق باللّون أحكام متعدّدة منها:
2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الماء إذا تغيّر لونه بنجس كدم فإنّه يصير نجساً, قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيّرت للماء لوناً أو طعماً أو رائحةً أنّه نجس ما دام كذلك, وقد روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الماء لا ينجّسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه». أمّا إذا تغيّر لون الماء بسبب اختلاطه بشيء طاهرٍ, فإن كان الطّاهر الّذي خالط الماء فتغيّر به ممّا يمكن الاحتراز منه بأن كان يفارق الماء غالباً كزعفران وتمرٍ ودقيقٍ وصابونٍ ولبنٍ وعسلٍ وغير ذلك ممّا يمكن الاحتراز منه فلا تجوز الطّهارة به من وضوءٍ وغسلٍ, أي أنّه لا يستعمل في العبادات, وإنّما لا يجوز استعماله في العبادات لأنّه ماء تغيّر بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز منه فلم يجز الوضوء به كماء الباقلاء المغليّ, ولأنّه زال عن إطلاقه فأشبه المغليّ. وهذا ما ذهب إليه المالكيّة والشّافعيّة وهو رواية عن الإمام أحمد, قال القاضي أبو يعلى: هذه الرّواية عن أحمد هي الأصح. والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه يجوز الطّهارة بالماء الّذي اختلط بطاهر ممّا يمكن الاحتراز منه, قال ابن قدامة: لأنّ اللّه تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ}, وهذا عام في كلّ ماءٍ فلا يجوز التّيمم مع وجوده, وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذرٍّ رضي الله تعالى عنه: «إنّ الصّعيد الطّيّب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين», وهذا واجد للماء, ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم, والغالب أنّها تغيّر الماء فلم ينقل عنهم تيمم مع وجود شيءٍ من تلك المياه, ولأنّه طهور خالطه طاهر لم يسلبه اسم الماء. وقال الحنفيّة: الماء المطلق إذا خالطه شيء من المائعات الطّاهرة كاللّبن والخلّ ونقيع الزّبيب ونحو ذلك على وجهٍ زال عنه اسم الماء بأن صار مغلوباً به فهو بمعنى الماء المقيّد, ثمّ ينظر إن كان الّذي خالطه ممّا يخالف لونه لون الماء كاللّبن وماء العصفر والزّعفران ونحو ذلك تعتبر الغلبة في اللّون هذا إذا لم يكن الّذي خالطه ممّا يقصد منه زيادة نظافةٍ, فإن كان ممّا يقصد منه ذلك ويطبخ به أو يخالط به كماء الصّابون والأشنان فإنّه يجوز التّوضؤُ به وإن تغيّر لون الماء, لأنّ اسم الماء باقٍ وازداد معناه وهو التّطهير, وكذلك جرت السنّة في غسل الميّت بالماء المغليّ بالسّدر والحُرُض - الأشنان - فيجوز الوضوء به إلا إذا صار غليظاً كالسّويق المخلوط لأنّه حينئذٍ يزول عنه اسم الماء ومعناه أيضاً. وإن كان الطّاهر الّذي اختلط بالماء فغيّر لونه ممّا لا يمكن الاحتراز منه بأن كان لا يفارق الماء غالباً, سواء أكان متولّداً من الماء كالطحلب, أم كان في القرار ويجري عليه الماء كالملح والطّين والشّبّ والكبريت والقار وغير ذلك ممّا لا يمكن صون الماء عنه فإنّه يجوز التّطهر به من وضوءٍ وغسلٍ لأنّه لا يمكن صون الماء عنه. ومثل ذلك ما إذا تغيّر لون الماء بما يسقط فيه من ورق الشّجر أو تحمله الرّيح فتلقيه فيه, فإنّه تجوز الطّهارة به لأنّه يشق الاحتراز منه. وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة في الأظهر والمعتمد والشّافعيّة والحنابلة في الجملة. والأصح عند الحنفيّة تقييد جواز التّطهر بهذا الماء بحالة ما إذا لم تذهب رقّته, إلا أنّ أحمد ابن إبراهيم الميدانيّ من الحنفيّة سئل عن الماء الّذي يتغيّر لونه لكثرة الأوراق الواقعة من الشّجر فيه حتّى يظهر لون الأوراق في الكفّ إذا رفع الماء منه هل يجوز التّوضؤُ به ؟ قال: لا, ولكن يجوز شربه وغسل الأشياء به لأنّه طاهر, وأمّا الوضوء فلأنّه لمّا غلب عليه لون الأوراق صار ماءً مقيّداً كماء الباقلاء. وفي قولٍ عند المالكيّة أنّ ماء البئر إذا تغيّر لونه بورق شجرٍ أو تبنٍ ألقته الرّيح فيه غير طهورٍ فلا تجوز الطّهارة به. والماء الآجن وهو الّذي يتغيّر بطول مكثه في المكان من غير مخالطة شيءٍ يغيّره باقٍ على إطلاقه في قول أكثر أهل العلم. قال ابن قدامة: يروى: «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توضّأ من بئرٍ كأنّ ماءه نقاعة الحنّاء», ولأنّه تغيّر من غير مخالطةٍ.
3 - إذا أصاب الثّوب أو البدن نجاسة فإنّه يجب إزالتها, فإن كانت النّجاسة مرئّيةً ولها لون كالدّم والصّبغ المتنجّس فالحكم في إزالة لون النّجاسة ما يأتي: ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ إزالة لون النّجاسة إن كان سهلاً ومتيسّراً وجب إزالته لأنّ بقاءه دليل على بقاء عين النّجاسة, فإن تعسّر زوال اللّون وشقّ ذلك أو خيف تلف ثوبٍ فإنّ المحلّ يطهر بالغسل ولا يضر بقاء اللّون لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: «أنّ خولة بنت يسارٍ قالت: يا رسول اللّه إنّه ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه ، قال: إذا طهرت فاغسليه ثمّ صلّي فيه ، قالت: فإن لم يخرج الدّم ؟ قال: يكفيك غسل الدّم ولا يضرك أثره». أما الحنفيّة فلهم قولان في التّفريق بين ما إذا كان يعسر زوال النّجاسة أو لا يعسر زوالها والأرجح عندهم اشتراط زوال اللّون ما لم يشقّ كما عند الجمهور. 4 - ولا يجب عند جميع الفقهاء استعمال أشنانٍ ولا صابونٍ ولا تسخين ماءٍ لإزالة اللّون أو الرّيح المتعسّر إزالته. لكن يسن ذلك عند الشّافعيّة إلا إذا تعيّن إزالة الأثر بذلك فإنّه يجب. وقال الحنابلة: إن استعمل في زوال الأثر شيئاً يزيله كالملح وغيره فحسن. 5 - والمصبوغ بصبغ نجسٍ, قال الحنفيّة: يطهر بغسله ثلاثاً, والأولى غسله إلى أن يصفو الماء. وقال المالكيّة: إذا غسل بالماء فإنّه يطهر ولا يضر بقاء لون النّجاسة إذا تعذّر إزالتها. وللشّافعيّة تفصيل آخر, قالوا: يطهر بالغسل مصبوغ بمتنجّس انفصل عنه ولم يزد المصبوغ وزناً بعد الغسل على وزنه قبل الصّبغ وإن بقي اللّون لعسر زواله, فإن زاد وزنه لم يطهر, وإن لم ينفصل عنه لتعقده به لم يطهر لبقاء النّجاسة فيه.
6 - للّون أثر في لبس الثّياب من حيث الحكم بالإباحة أو الكراهة أو التّحريم. وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح: (ألبسة ف 6 وما بعدها).
7 - اختلف الفقهاء فيما يجب بتغير اللّون في الجناية: فقال الحنفيّة: من جنى على سنّ شخصٍ ولم تقلع وإنّما تغيّر لونها, فإن كان التّغير إلى السّواد أو إلى الحمرة أو إلى الخضرة ففيها الأرش تامّاً, لأنّه ذهبت منفعتها, وذهاب منفعة العضو بمنزلة ذهاب العضو, وإن كان التّغير إلى الصفرة ففيها حكومة العدل, لأنّ الصفرة لا توجب فوات المنفعة, وإنّما توجب نقصانها فتوجب حكومة العدل, وقال زفر في الصفرة الأرش تامّاً كما في السّواد, لأنّ كلّ ذلك يفوّت الجمال. وروي عن أبي يوسف أنّه إن كانت الصفرة كثيرةً حتّى تكون عيباً كعيب الحمرة والخضرة ففيها عقلها تامّاً, قال الكاساني: ويجب أن يكون هذا قولهم جميعاً, ولو سقطت السّن بالجناية فنبتت مكانها سن أخرى متغيّرة بأن نبتت سوداء أو حمراء أو خضراء أو صفراء فحكمها حكم ما لو كانت قائمةً فتغيّرت بالضّربة لأنّ النّابت قام مقام الذّاهب, فكأنّ الأولى قائمةً وتغيّرت. والظفر إذا جنى عليه شخص فقلعه فنبت مكانه ظفر آخر: فإن نبت أسود ففيه حكومة عدلٍ عند أبي يوسف لما أصاب من الألم بالجراحة الأولى. ولو حلق شخص رأس رجلٍ شعره أسود فنبت الشّعر أبيض فقال أبو يوسف فيه حكومة عدلٍ, لأنّ المقصود من الشّعر الزّينة, والزّينة معتبرة فلا يقوم النّابت مقام الفائت, وقال أبو حنيفة: لا شيء فيه, لأنّ الشّيب ليس بعيب, بل هو جمال وكمال فلا يجب به أرش. وقال المالكيّة: إن جنى على سنٍّ وكانت بيضاء فتغيّر لونها إلى السّواد ففيها خمس من الإبل وإن تغيّر لونها إلى الحمرة أو إلى الصفرة فإن كانت الحمرة أو الصفرة كالسّواد في إذهاب الجمال ففيها خمس من الإبل كالتّغير إلى السّواد وإن لم تكن الحمرة أو الصفرة كالسّواد في إذهاب الجمال ففيها بحساب ما نقص, وفي سماع ابن القاسم: إن اصفرّت السّن ففيها بقدر شينها لا يكمل عقلها حتّى تسودّ لا بتغيرها, وقال أصبغ: في اخضرارها أكثر ممّا في احمرارها وفي احمرارها أكثر ممّا في اصفرارها. ومن أطعمت زوجها ما اسودّ به لونه فعند بعض المالكيّة عليها الدّية قياساً على ما في المدوّنة من تسويد السّنّ, وقال بعض المالكيّة إنّ هناك فارقاً بين الأمرين, وذلك لأنّ الشّأن في السّنّ البياض وأمّا الآدمي ففي بعض أفراده الأسود. ومن ضرب إنساناً أو فعل به فعلاً اسودّ به جسده بعد أن كان غير أسود, وهو نوع من البرص ففيه الدّية. وقال الشّافعيّة: إن ضرب شخص سنّ غيره فاصفرّت أو احمرّت وجبت فيها الحكومة لأنّ منافعها باقية, وإنّما نقص بعض جمالها, فوجب فيها الحكومة, فإن ضربها فاسودّت فقد قالوا في موضعٍ: تجب فيها الحكومة, وقالوا في موضعٍ آخر: تجب الدّية, وليست على قولين وإنّما هي على اختلاف حالين, فالّذي قال تجب فيها الدّية إذا ذهبت المنفعة, والّذي قال تجب فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة. وذكر المزني أنّها على قولين, واختار أنّه يجب فيها الحكومة, والصّحيح هو الطّريق الأوّل. وإن قلع شخص سنّ غيره فنبت مكانها سن صفراء أو خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال, وإن لطم رجلاً أو لكمه أو ضربه بمثقّل فإن لم يحصل به أثر لم يلزمه أرش لأنّه لم يحصل به نقص في جمالٍ ولا منفعة فلم يلزمه أرش, وإن حصل به شين بأن اسودّ أو اخضرّ وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشّين, فإن قضى فيه بالحكومة ثمّ زال الشّين سقطت الحكومة كما لو جنى على عينٍ فابيضّت ثمّ زال البياض. وقال الحنابلة: من اعتدى على غيره فقلع ظفره فعاد أسود ففيه خمس دية الأصبع نصاً عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ذكره ابن المنذر ولم يعرف له مخالف من الصّحابة. وقال البهوتي: في تسويد سنٍّ وظفرٍ وتسويد أنفٍ وتسويد أذنٍ بحيث لا يزول التّسويد دية ذلك العضو كاملةً لإذهاب جماله. لكن ابن قدامة فصّل في تسويد السّنّ فقال: حكي عن أحمد روايتان: إحداهما: تجب ديتها كاملةً وهو ظاهر كلام الخرقيّ ويروى هذا عن زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه, وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنّخعيّ وعبد العزيز بن أبي سلمة واللّيث والثّوري, لأنّه أذهب الجمال على الكمال فكملت ديتها. والرّواية الثّانية عن أحمد أنّه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها, وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة وهو قول القاضي. أما إن اصفرّت السّن أو احمرّت لم تكتمل ديتها, لأنّه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة, وإن اخضرّت احتمل أن يكون كتسويدها لأنّه يذهب بجمالها, واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة, لأنّ ذهاب جمالها بتسويدها أكثر فلم يلحق به غيره كما لو حمّرها. وقال البهوتي: من جنى على سنٍّ صغيرٍ فقلعه ولم يعد, أو عاد أسود واستمرّ أسود, أو عاد أبيض ثمّ اسودّ بلا علّةٍ ففيها خمس من الإبل, روي ذلك عن عمر وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم, وإن عاد السّن أبيض ثمّ اسودّ لعلّة ففيها حكومة لأنّها أرش كلّ ما لا مقدّر فيه. ومن ضرب وجه إنسانٍ فاسودّ الوجه ولم يزل سواده ففيه الدّية كاملةً, لأنّه فوّت الجمال على الكمال فضمنه بديته كقطع أذن الأصمّ, وإن زال السّواد يرد ما أخذه لزوال سبب الضّمان, وإن زال بعضه وجبت فيه حكومة وردّ الباقي. وإن صار الوجه أحمر أو أصفر ففيه حكومة كما لو سوّد بعضه, لأنّه لم يذهب الجمال على الكمال.
1 - لو غيّر الغاصب المغصوب فلوّنه بلون غير لونه الأصليّ فللفقهاء في ذلك تفصيل بيانه ما يلي: ذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة إلى أنّ من غصب من إنسانٍ ثوباً فصبغه الغاصب بصبغ نفسه بأيّ لونٍ كان, أسود أو أحمر أو أصفر بالعصفر والزّعفران وغيرهما من الألوان فصاحب الثّوب بالخيار إن شاء أخذ الثّوب من الغاصب, لأنّ الثّوب ملكه لبقاء اسمه ومعناه, ولكنّه يضمن ما زاد الصّبغ فيه فيعطيه للغاصب, لأنّ للغاصب عين مالٍ متقوّمٍ قائمٍ فلا سبيل إلى إبطال ملكه عليه من غير ضمانٍ فكان الأخذ بضمانه رعايةً للجانبين. وإن شاء المغصوب منه ترك الثّوب على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض يوم الغصب لأنّه لا سبيل إلى جبره على أخذ الثّوب, إذ لا يمكنه أخذه إلا بضمان, وهو قيمة ما زاد الصّبغ فيه, ولا سبيل إلى جبره على الضّمان لانعدام مباشرة سبب وجوب الضّمان منه. وإن نقصت قيمة الثّوب بصبغه فيخيّر ربه في أخذه مع أرش نقصه, أو أخذ قيمة الثّوب يوم غصبه. وفرّق أبو حنيفة في الألوان, فوافق أبا يوسف ومحمّداً فيما لو كان الغاصب صبغه أحمر أو أصفر أما لو صبغه أسود فقال أبو حنيفة: صاحب الثّوب بالخيار إن شاء تركه على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض, وإن شاء أخذ الثّوب ويضمن الغاصب النقصان, وهذا بناءً على أنّ السّواد نقصان عند أبي حنيفة. وللحنفيّة قول آخر, قيل: إنّ لصاحب الثّوب خياراً ثالثاً وهو أنّ له ترك الثّوب على حاله وكان الصّبغ فيه للغاصب فيباع الثّوب ويقسم الثّمن على قدر حقّهما, لأنّ التّمييز متعذّر فصارا شريكين. وقال الحنفيّة أيضاً: لو غصب عصفراً وثوباً من رجلٍ واحدٍ فصبغه أي الثّوب به فالمغصوب منه يأخذ الثّوب مصبوغاً ويبرئ الغاصب من الضّمان في العصفر والثّوب استحساناً, لأنّ المغصوب منه واحد, ولأنّ خلط مال الإنسان بماله لا يعد استهلاكاً له بل يكون نقصاناً, فإذا اختار أخذ الثّوب فقد أبرأه عن النقصان, والقياس أن يضمن الغاصب عصفراً مثله, ثمّ يصير كأنّه صبغ ثوبه بعصفر نفسه, فيثبت الخيار لصاحب الثّوب. وقالوا كذلك: لو غصب من إنسانٍ ثوباً ومن إنسانٍ صبغاً فصبغه به: فإنّ الغاصب يضمن لصاحب الصّبغ صبغاً مثل صبغه, ويصبح مالكاً للصّبغ بالضّمان, وصاحب الثّوب بعد ذلك بالخيار إن شاء أخذ الثّوب من الغاصب وأعطاه ما زاد الصّبغ فيه وإن شاء ترك الثّوب على الغاصب وضمّنه قيمة ثوبه أبيض يوم الغصب, وقيل يباع الثّوب ويقسم الثّمن على قدر حقّهما. وقال الشّافعيّة: لو صبغ الغاصب الثّوب بصبغه وأمكن فصله منه بأن لم ينعقد الصّبغ به أجبر على الفصل وإن خسر كثيراً أو نقصت قيمة الصّبغ بالفصل في الأصحّ كالبناء والغراس, وله الفصل قهراً على المالك وإن نقص الثّوب به لأنّه يغرم أرش النّقص فإن لم يحصل به نقص فكالتّزويق فلا يستقل الغاصب بفصله ولا يجبره المالك عليه, ومقابل الأصحّ لا, لما فيه من ضرر الغاصب لأنّه يضيع بفصله. وخرج بصبغه صبغ المالك فالزّيادة كلها له والنّقص على الغاصب, ويمتنع فصله بغير إذن المالك وله إجباره عليه مع أرش النّقص, وصبغ مغصوبٍ من آخر فلكلّ من مالكي الثّوب والصّبغ تكليفه فصلاً أمكن مع أرش النّقص, فإن لم يمكن فهما في الزّيادة والنّقص كما في قوله. وإن لم يمكن فصله لتعقده فإن لم تزد قيمته ولم تنقص بأن كان يساوي عشرةً قبله وساواها بعده مع أنّ الصّبغ قيمته خمسة لا لانخفاض سوق الثّياب بل لأجل الصّبغ فلا شيء للغاصب فيه ولا عليه, إذ غصبه كالمعدوم حينئذٍ وإن نقصت قيمته بأن صار يساوي خمسةً لزمه الأرش لحصول النّقص بفعله, وإن زادت قيمته بسبب العمل والصّبغ اشتركا في الثّوب هذا بصبغه وهذا بثوبه أثلاثاً, ثلثاه للمغصوب منه وثلث للغاصب, أما إذا زاد سعر أحدهما فقط بارتفاعه فالزّيادة لصاحبه, وإن نقص عن الخمسة عشر قيمتها كأن ساوى اثني عشر, فإن كان النّقص بسبب انخفاض سعر الثّياب فهو على الثّوب, أو سعر الصّبغ أو بسبب الصّنعة فعلى الصّبغ, قاله في الشّامل والتّتمّة, وبهذا أي اختصاص الزّيادة عن ارتفاع سعر ملكه يعلم أنّه ليس معنى اشتراكهما كونه على وجه الشيوع بل هذا بثوبه وهذا بصبغه. ولو بذل صاحب الثّوب للغاصب قيمة الصّبغ ليتملّكه لم يجب إليه أمكن فصله أم لا, ولو أراد أحدهما الانفراد ببيع ملكه لثالث لم يصحّ, إذ لا ينتفع به وحده كبيع دارٍ لا ممرّ لها, نعم لو أراد المالك بيع الثّوب لزم الغاصب بيع صبغه معه لأنّه متعدٍّ فليس له أن يضرّ بالمالك, بخلاف ما لو أراد الغاصب بيع صبغه لا يلزم مالك الثّوب بيعه معه لئلا يستحقّ المتعدّي بتعدّيه إزالة ملك غيره. ولو طيّرت الرّيح ثوباً إلى مصبغة آخر فانصبغ فيها اشتركا في المصبوغ ولم يكلّف أحدهما البيع ولا الفصل ولا الأرش وإن حصل نقص إذ لا تعدّي. وقال الحنابلة: إن غصب ثوباً فصبغه الغاصب بصبغه فنقصت قيمة الثّوب والصّبغ أو نقص قيمة أحدهما ضمن الغاصب النّقص لأنّه حصل بتعدّيه فضمنه, كما لو أتلف بعضه, وإن كان النّقص بسبب تغير الأسعار لم يضمنه, وإن لم تنقص قيمتهما ولم تزد أو زادت قيمتهما فهما أي رب الثّوب والصّبغ شريكان في الثّوب وصبغه بقدر ملكيهما, فيباع ذلك ويوزّع الثّمن على قدر القيمتين, وإن زادت قيمة أحدهما من ثوبٍ أو صبغٍ فالزّيادة لصاحبه يختص بها, لأنّ الزّيادة تبع للأصل, هذا إذا كانت الزّيادة لغلوّ سعرٍ, فإن حصلت الزّيادة بالعمل فهي بينهما, لأنّ ما عمله الغاصب في العين المغصوبة لمالكها حيث كان أثراً, وزيادة مال الغاصب له, وإن أراد مالك الثّوب أو الغاصب قلع الصّبغ من الثّوب لم يجبر الآخر عليه, لأنّ فيه إتلافاً لملكه, وإن أراد مالك الثّوب بيع الثّوب فله ذلك لأنّه ملكه وهو عين, وصبغه باقٍ للغاصب, ولو أبى الغاصب بيع الثّوب فلا يمنع منه مالكه, لأنّه لا حجر له عليه في ملكه, وإن أراد الغاصب بيع الثّوب المصبوغ لم يجبر المالك لحديث: «إنّما البيع عن تراضٍ», وإن بذل الغاصب لربّ الثّوب قيمته ليملكه, أو بذل رب الثّوب قيمة الصّبغ للغاصب ليملكه, لم يجبر الآخر لأنّها معاوضة لا تجوز إلا بتراضيهما. وصحّح الحارثي أنّ لمالك الثّوب تملك الصّبغ بقيمته, ليتخلّص من الضّرر. وإن وهب الغاصب الصّبغ لمالك الثّوب لزم المالك قبوله لأنّه صار من صفات العين, فهو كزيادة الصّفة في المسلم فيه. وإن غصب صبغاً فصبغ به الغاصب ثوبه فهما شريكان بقدر حقّيهما في ذلك فيباع ويوزّع الثّمن على قدر الحقّين, لأنّه بذلك يصل كل منهما لحقّه, ويضمن الغاصب النّقص إن وجد لحصوله بفعله, ولا شيء له إن زاد المغصوب في نظير عمله لتبرعه به. وإن غصب ثوباً وصبغاً من واحدٍ فصبغه به ردّه الغاصب وردّ أرش نقصه إن نقص لتعدّيه به ولا شيء له في زيادته بعمله فيه, لأنّه متبرّع به, وإن كان من اثنين اشتركا في الأصل والزّيادة بالقيمة, وما نقص من أحدهما غرمه الغاصب, وإن نقص السّعر لنقص سعر الثّياب أو الصّبغ أو لنقص سعرهما لم يضمنه الغاصب, ونقص كلّ واحدٍ منها من صاحبه, وإن أراد أحدهما قلع الصّبغ لم يجبر الآخر.
9 - ذكر الحنفيّة أنّ من دفع ثوباً إلى صبّاغٍ ليصبغه لوناً معيّناً فصبغه لوناً آخر فصاحب الثّوب بالخيار: إن شاء ضمّنه قيمة ثوبٍ أبيض وسلّم الثّوب للأجير وذلك لفوات غرضه, لأنّ الأغراض تختلف باختلاف الألوان, فله أن يضمّنه قيمة ثوبٍ أبيض لتفويته عليه منفعةً مقصودةً, فصار متلفاً الثّوب عليه فكان له أن يضمّنه, وإن شاء أخذ الثّوب وأعطى الأجير ما زاد الصّبغ فيه, لأنّ الضّمان وجب حقاً له فله أن يسقط حقّه, ولا أجر للصّبّاغ, لأنّه لم يأت بما وقع عليه العقد رأساً حيث لم يوفّ العمل المأذون فيه أصلاً فلا يستحق الأجر, ويعطيه ما زاد الصّبغ فيه إن كان الصّبغ ممّا يزيد كالحمرة والصفرة ونحوهما, لأنّه عين مالٍ قائمٍ بالثّوب فلا سبيل إلى أخذه مجّاناً بلا عوضٍ, فيأخذه ويعطيه ما زاد الصّبغ فيه رعايةً للحقّين ونظراً من الجانبين. وإن كان الصّبغ ممّا لا يزيد كالسّواد فعند أبي يوسف ومحمّدٍ له قيمة وحكمه حكم سائر الألوان, وعند أبي حنيفة السّواد لا قيمة له عنده فلا يزيد بل ينقص, وعلى هذا الأساس لو اختار صاحب الثّوب أخذه لا يعطيه شيئاً نظير الصّبغ بل يضمّنه نقصان الثّوب عند أبي حنيفة. وإذا أمر رجلاً أن يحمّر له بيتاً فخضّره قال محمّد: أعطيه ما زادت الخضرة فيه ولا أجرة له, لأنّه لم يعمل ما استأجره عليه رأساً فلا يستحق الأجرة, ولكن يستحق قيمة الصّبغ الّذي زاد في البيت. وإن دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه بصبغ مسمّىً فصبغ بصبغ آخر لكنّه من جنس ذلك اللّون فصاحب الثّوب مخيّر بين أن يضمّنه قيمته أبيض ويسلّم إليه الثّوب وإن شاء أخذ الثّوب وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به ما سمّى, وإنّما وجب الأجر هنا في هذه المسألة خلافاً لما سبق, لأنّ الخلاف في الصّفة لا يخرج العمل من أن يكون معقوداً عليه فقد أتى بأصل المعقود عليه إلا أنّه لم يأت بوصفه. وقال المالكيّة: من دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه فصبغه لكن صاحب الثّوب ادّعى أنّه طلب صبغه بلون آخر وقال الصّبّاغ: إنّه اللّون الّذي طلبه منه صاحب الثّوب فالقول قول الصّبّاغ إن كان اللّون الّذي صبغه به يشبه ما يناسب مالك الثّوب في استعماله. وكل هذا ما لم تقم قرينة قويّة تؤيّد قول المالك. وإن كان قول الصّبّاغ لم يشبه ما يناسب مالك الثّوب في استعماله فإنّ ربّ الثّوب يحلف ويثبت له الخيار في أخذه ودفع أجرة المثل أو تركه وأخذ قيمته غير مصبوغٍ, فإن نكل رب الثّوب اشتركا هذا بقيمة ثوبه غير مصبوغٍ وهذا بقيمة صبغه. وقال الشّافعيّة: من دفع إلى صبّاغٍ ثوباً ليصبغه أحمر فصبغه أخضر, فقال: أمرتك أن تصبغه أحمر فقال الصّبّاغ: بل أمرتني أن أصبغه أخضر فإنّهما يتحالفان, قال أبو إسحاق الشّيرازي: واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرقٍ: فمنهم من قال فيه ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنّ القول قول الصّبّاغ. والثّاني: القول قول ربّ الثّوب. والثّالث: أنّهما يتحالفان. ومن أصحابنا من قال: المسألة على القولين الأوّلين فقط. ومن أصحابنا من قال: المسألة على قولٍ واحدٍ وهو أنّهما يتحالفان, قال الشّيرازي: وهو الصّحيح لأنّ كلّ واحدٍ منهما مدّعٍ ومدّعى عليه, وإذا تحالفا لم تجب الأجرة.
وقال الحنابلة: إذا اختلف صاحب الثّوب والصّبّاغ في لون الصّبغ فقال الصّبّاغ: أذنت لي في صبغه أسود, وقال رب الثّوب بل أحمر, فالقول قول الصّبّاغ وله أجرة مثله.
1 - ليلة القدر تتركّب من لفظين: أوّلهما: ليلة وهي في اللغة: من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر, ويقابلها النّهار. ولا يخرج المعنى الاصطلاحي له عن المعنى اللغويّ. وثانيهما: القدر, ومن معاني القدر في اللغة: الشّرف والوقار, ومن معانيه: الحكم والقضاء والتّضييق. واختلف الفقهاء في المراد من القدر الّذي أضيفت إليه اللّيلة فقيل: المراد به التّعظيم والتّشريف, ومنه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}, والمعنى: أنّها ليلة ذات قدرٍ وشرفٍ لنزول القرآن فيها, ولما يقع فيها من تنزل الملائكة, أو لما ينزل فيها من البركة والرّحمة والمغفرة, أو أنّ الّذي يحييها يصير ذا قدرٍ وشرفٍ. وقيل: معنى القدر هنا التّضييق كمثل قوله تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} ومعنى التّضييق فيها إخفاؤُها عن العلم بتعيينها, أو لأنّ الأرض تضيق فيها عن الملائكة, وقيل: القدر هنا بمعنى القدَر - بفتح الدّال - وهو مؤاخي القضاء: أي بمعنى الحكم والفصل والقضاء, قال العلماء: سمّيت ليلة القدر لما تكتب فيها الملائكة من الأرزاق والآجال وغير ذلك ممّا سيقع في هذه السّنة بأمر من اللّه سبحانه لهم بذلك, وذلك ما يدل عليه قول اللّه تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}, حيث ذهب جمهور العلماء إلى أنّ اللّيلة المباركة الواردة في هذه الآية هي ليلة القدر, وليست ليلة النّصف من شعبان كما ذهب إليه بعض المفسّرين. قال ابن قدامة: ليلة القدر هي ليلة شريفة مباركة معظّمة مفضّلة ثمّ قال: وقيل: إنّما سمّيت ليلة القدر لأنّه يقدّر فيها ما يكون في تلك السّنة من خيرٍ ومصيبةٍ, ورزقٍ وبركةٍ.
2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ ليلة القدر أفضل اللّيالي, وأنّ العمل الصّالح فيها خير من العمل الصّالح في ألف شهرٍ ليس فيها ليلة القدر, قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}, وأنّها اللّيلة المباركة الّتي يفرق فيها كل أمرٍ حكيمٍ, والّتي ورد ذكرها في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}. وورد في فضلها أيضاً بالإضافة إلى ما سبق قول اللّه تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَََلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}, قال القرطبي: أي تهبط من كلّ سماءٍ ومن سدرة المنتهى فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء النّاس إلى وقت طلوع الفجر, وتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالرّحمة بأمر اللّه تعالى وبكلّ أمرٍ قدّره اللّه وقضاه في تلك السّنة إلى قابلٍ. وفي فضل ليلة القدر أيضاً قال اللّه تعالى: {سَََلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي أنّ ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شرّ فيها إلى طلوع الفجر, قال الضّحّاك: لا يقدّر اللّه في تلك اللّيلة إلا السّلامة وفي سائر اللّيالي يقضي بالبلايا والسّلامة, وقال مجاهد: هي ليلة سالمة لا يستطيع الشّيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أذىً.
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء ليلة القدر لفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو سعيدٍ الخدري رضي الله تعالى عنه: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جاور في العشر الأواخر من رمضان», ولما ورد عن عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كان إذا دخل العشر أحيا اللّيل وأيقظ أهله وشدّ المئزر», والقصد منه إحياء ليلة القدر ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه». ويكون إحياء ليلة القدر بالصّلاة وقراءة القرآن والذّكر والدعاء, وغير ذلك من الأعمال الصّالحة, وأن يكثر من دعاء: اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنّي, لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول اللّه أرأيت إن علمت أيّ ليلةٍ ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال: قولي اللّهمّ إنّك عفوٌّ كريم تحب العفو فاعف عنّي», قال ابن علان: بعد ذكر هذا الحديث: فيه إيماء إلى أنّ أهمّ المطالب انفكاك الإنسان من تبعات الذنوب وطهارته من دنس العيوب, فإنّ بالطّهارة من ذلك يتأهّل للانتظام في سلك حزب اللّه وحزب اللّه هم المفلحون.
4 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ ليلة القدر خاصّة بالأمّة المحمّديّة ولم تكن في الأمم السّابقة, واستدلوا بما روي عن مالك بن أنسٍ: أنّه سمع من يثق به من أهل العلم يقول: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أري أعمار النّاس قبله ، أو ما شاء اللّه من ذلك ، فكأنّه تقاصر أعمار أمّته أن لا يبلغوا من العمل مثل الّذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه اللّه ليلة القدر خير من ألف شهرٍ». وبما روي: «أنّ رجلاً من بني إسرائيل لبس السّلاح في سبيل اللّه تعالى ألف شهرٍ فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}». وذهب بعضهم إلى أنّ ليلة القدر كانت في الأمم السّابقة واحتجوا بحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه وفيه: «قلت يا رسول اللّه أخبرني عن ليلة القدر أفي كلّ رمضان هي ؟ قال: نعم ، قلت أفتكون مع الأنبياء فإذا رفعوا رفعت أو إلى يوم القيامة ؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة».
5 - اختلف العلماء في بقاء ليلة القدر: فذهب الجمهور إلى أنّ ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة لحديث أبي ذرٍّ في المسألة السّابقة وللأحاديث الكثيرة الّتي تحث المسلم على طلبها والاجتهاد في إدراكها, ومنها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه», وقوله صلى الله عليه وسلم: «تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان». وذهب بعض العلماء إلى أنّ ليلة القدر رفعت أصلاً ورأساً, قال ابن حجرٍ: حكاه المتولّي في التّتمّة عن الرّوافض والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفيّة وكأنّه خطأ, والّذي حكاه السروجي أنّه قول الشّيعة. وقد روى عبد الرّزّاق عن عبد اللّه بن يحنس قلت لأبي هريرة رضي الله عنه: زعموا أنّ ليلة القدر رفعت ، قال: كذب من قال ذلك, وعن عبد اللّه بن شريكٍ قال: ذكر الحجّاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها فأراد زر بن حبيشٍ أن يحصبه فمنعه قومه.
6 - اختلف الفقهاء في محلّ ليلة القدر: فذهب جمهورهم وهو المذهب عند الحنفيّة إلى أنّ محلّ ليلة القدر في رمضان دائرة معه, لأنّ اللّه سبحانه وتعالى أخبر أنّه أنزل القرآن في ليلة القدر بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}. وأخبرنا كذلك أنّه أنزل القرآن في شهر رمضان بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}, الآية, ممّا يدل على أنّ ليلة القدر منحصرة في شهر رمضان دون سائر ليالي السّنة الأخرى. كما استدلوا بالأحاديث الصّحيحة والّتي سبق نقلها وهي تدل على أنّ محلّ ليلة القدر في شهر رمضان. وذهب بعض العلماء ومنهم عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه وأبو حنيفة في المشهور عنه إلى أنّ محلّ ليلة القدر في جميع السّنة تدور فيها, قد تكون في رمضان وقد تكون في غير رمضان فقد روي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنّه كان يقول: " من يقم الحول يصب ليلة القدر " مشيراً إلى أنّها في السّنة كلّها, ولمّا بلغ قوله هذا إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: يرحم اللّه أبا عبد الرّحمن أما إنّه علم أنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان ولكنّه أراد ألا يتّكل النّاس. 7 - واختلف جمهور الفقهاء الّذين ذهبوا إلى أنّ ليلة القدر في شهر رمضان في محلّها من الشّهر وذلك بعدما قالوا: يستحب طلب ليلة القدر في جميع ليالي رمضان وفي العشر الأواخر آكد, وليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان آكد, للأحاديث السّابقة. وفيما يلي أقوال العلماء في محلّها: القول الأوّل: الصّحيح المشهور لدى جمهور الفقهاء, وهم المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة, والأوزاعي وأبو ثورٍ: أنّها في العشر الأواخر من رمضان لكثرة الأحاديث الّتي وردت في التماسها في العشر الأواخر من رمضان, وتؤكّد أنّها في الأوتار ومنحصرة فيها.
والأشهر والأظهر عند المالكيّة أنّها ليلة السّابع والعشرين. وبهذا يقول الحنابلة, فقد صرّح البهوتي بأنّ أرجاها ليلة سبعٍ وعشرين نصاً. القول الثّاني: قال ابن عابدين: ليلة القدر دائرة مع رمضان, بمعنى أنّها توجد كلّما وجد, فهي مختصّة به عند الإمام وصاحبيه, لكنّها عندهما في ليلةٍ معيّنةٍ منه, وعنده لا تتعيّن. وقال الطّحطاوي: ذهب الأكثر إلى أنّ ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين, وهو قول ابن عبّاسٍ وجماعةٍ من الصّحابة رضي الله عنهم, ونسبه العيني في شرح البخاريّ إلى الصّاحبين. القول الثّالث: قال النّووي: مذهب الشّافعيّة وجمهور أصحابنا أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا, ولكنّها في ليلةٍ معيّنةٍ في نفس الأمر لا تنتقل عنها ولا تزال من تلك اللّيلة إلى يوم القيامة, وكل ليالي العشر الأواخر محتملة لها, لكن ليالي الوتر أرجاها, وأرجى الوتر عند الشّافعيّ ليلة الحادي والعشرين, وقال الشّافعي في موضعٍ إلى ثلاثةٍ وعشرين, وقال البندنيجي: مذهب الشّافعيّ أنّ أرجاها ليلة إحدى وعشرين, وقال في القديم: ليلة إحدى وعشرين أو ثلاثٍ وعشرين فهما أرجى لياليها عنده, وبعدهما ليلة سبعٍ وعشرين. هذا هو المشهور في المذهب أنّها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان. وقال الشّربيني الخطيب:.. وقال ابن عبّاسٍ وأبيّ رضي الله عنهم: هي ليلة سبعٍ وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم. القول الرّابع: أنّها أوّل ليلةٍ من رمضان, وهو قول أبي رزينٍ العقيليّ الصّحابيّ لقول أنسٍ رضي الله عنه: ليلة القدر أوّل ليلةٍ من رمضان, نقلها عنهما ابن حجرٍ. القول الخامس: أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان, روى ابن أبي شيبة والطّبراني من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: ما أشك ولا أمتري أنّها ليلة سبع عشرة من رمضان ليلة أنزل القرآن, وروي ذلك عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه بحجّة أنّها هي اللّيلة الّتي كانت في صبيحتها وقعة بدرٍ ونزل فيها القرآن لقوله تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}, وهو ما يتوافق تماماً مع قوله تعالى في ليلة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. القول السّادس: أنّها مبهمة في العشر الأوسط, حكاه النّووي وقال به بعض الشّافعيّة وهو قول للمالكيّة وعزاه الطّبريّ إلى عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه والحسن البصريّ. القول السّابع: أنّها ليلة تسع عشرة, قال ابن حجرٍ: رواه عبد الرّزّاق عن عليٍّ رضي الله عنه وعزاه الطّبريّ لزيد بن ثابتٍ وابن مسعودٍ رضي الله عنهما ووصله الطّحاوي عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه. القول الثّامن: أنّها متنقّلة في ليالي العشر الأواخر تنتقل في بعض السّنين إلى ليلةٍ وفي بعضها إلى غيرها, وذلك جمعاً بين الأحاديث الّتي وردت في تحديدها في ليالٍ مختلفةٍ من شهر رمضان عامّةً ومن العشر الأواخر خاصّةً, لأنّه لا طريق إلى الجمع بين تلك الأحاديث إلا بالقول بأنّها متنقّلة, وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يجيب على نحو ما يسأل, فعلى هذا كانت في السّنة الّتي رأى أبو سعيدٍ رضي الله عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطّين ليلة إحدى وعشرين, وفي السّنة الّتي أمر عبد اللّه ابن أنيسٍ بأن ينزل من البادية ليصلّي في المسجد ليلة ثلاثٍ وعشرين, وفي السّنة الّتي رأى أبي بن كعبٍ رضي الله عنه علامتها ليلة سبعٍ وعشرين, وقد ترى علامتها في غير هذه اللّيالي, وهذا قول مالكٍ وأحمد والثّوريّ وإسحاق وأبي ثورٍ وأبي قلابة والمزنيّ وصاحبه أبي بكرٍ محمّد ابن إسحاق بن خزيمة والماورديّ وابن حجرٍ العسقلانيّ من الشّافعيّة, وقال النّووي: وهذا هو الظّاهر المختار, لتعارض الأحاديث الصّحيحة في ذلك ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها, وقيل: إنّ ليلة القدر متنقّلة في شهر رمضان كلّه. قال بعض أهل العلم: أبهم اللّه تعالى هذه اللّيلة على الأمّة ليجتهدوا في طلبها, ويجدوا في العبادة طمعاً في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليكثروا من الدعاء في اليوم كلّه, وأخفى اسمه الأعظم في الأسماء, ورضاه في الطّاعات ليجتهدوا في جميعها, وأخفى الأجل وقيام السّاعة ليجدّ النّاس في العمل حذراً منهما.
8 - نصّ فقهاء المالكيّة والشّافعيّة على مسألة اشتراط العلم بليلة القدر لنيل فضلها أو عدم اشتراطه واختلفوا في ذلك: فذهب بعض المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّه لا ينال فضل ليلة القدر إلا من أطلعه اللّه عليها, فلو قام إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. وقال آخرون من فقهاء المذهبين: إنّه لا يشترط لنيل فضل ليلة القدر العلم بها, ويستحب التّعبد في كلّ ليالي العشر الأواخر من رمضان حتّى يحوز الفضيلة على اليقين. ورجّح فقهاء المذهبين الرّأي الثّاني وقالوا: ومع ذلك فإنّ حال من اطّلع على ليلة القدر أكمل وأتم في الفضل إذا قام بوظائفها.
9 - قال العلماء: لليلة القدر علامات يراها من شاء اللّه من عباده في كلّ سنةٍ من رمضان, لأنّ الأحاديث وأخبار الصّالحين ورواياتهم تظاهرت عليها: فمنها ما ورد من حديث عبادة بن الصّامت رضي الله عنه مرفوعاً: «إنّها صافية بلجة كأنّ فيها قمراً ساطعاً ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حرّ ولا يحل لكوكب أن يُرمى به فيها حتّى تصبح وأنّ من أمارتها أنّ الشّمس صبيحتها تخرج مستويةً ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشّيطان أن يخرج معها يومئذٍ». وعن أبي بن كعبٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الشّمس تطلع يومئذٍ لا شعاع لها». ومنها ما ورد من قول ابن مسعودٍ رضي الله عنه: أنّ الشّمس تطلع كلّ يومٍ بين قرني شيطانٍ إلا صبيحة ليلة القدر.
10 - اتّفق العلماء على أنّه يستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها. والحكمة في كتمانها كما ذكرها ابن حجرٍ نقلاً عن الحاوي أنّها كرامة والكرامة ينبغي كتمانها بلا خلافٍ بين أهل الطّريق من جهة رؤية النّفس, فلا يأمن السّلب, ومن جهةٍ أن لا يأمن الرّياء, ومن جهة الأدب فلا يتشاغل عن الشكر للّه بالنّظر إليها وذكرها للنّاس, ومن جهةٍ أنّه لا يأمن الحسد فيوقع غيره في المحذور. قال ابن حجرٍ العسقلاني: ويستأنس له بقول يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لابنه يوسف عليه السلام: {يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
الموسوعة الفقهية / نهاية الجزء الخامس والثلاثين
|